* د. سليمان صويص ـ الأردن
تتابع الشعوب العربية تطورات الوضع في تونس بإهتمام بالغ لأن الثورة الشعبية التي فجرها الشعب العربي التونسي هي محط آمال أحرار العرب من المحيط إلى الخليج. هذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها شعب عربي في الزمن العربي المعاصر من إجبار ديكتاتور على التخلي عن السلطة ويبدأ بتأسيس نظام ديمقراطي شعبي بكل معنى الكلمة.
يكتب الشعب التونسي البطل تاريخ بلاده بمداد من الدم والفخار ؛ لقد أعاد الحياة والأمل للشعوب العربية التي تتوق كل يوم إلى التخلص من انظمة الإستبداد والتبعية والقهر والاستغلال. لكن تاريخ الثورات علمنا بأن قوى الرجعية والاستبداد والهيمنة لا تسلم بهزيمتها بسهولة. ستظل تحاول استعادة سلطتها بكل وسائل التحايل والبطش والتآمر ما استطاعت إليها سبيلاً.
الثورة الشعبية التونسية الراهنة تقف في منتصف الطريق : لقد اسقطت الديكتاتور، لكن نظامه لا يزال مسيطراً على مفاصل أساسية في السلطة وهو يسعى جاهداً للتشبث بها بكل ما اوتي من خداع ومكر وقوة. لقد تبدى ذلك خلال اليومين الماضيين. عادت قوى الأمن لتقمع الجماهير المنتفضة، استجابة لأوامر وزير الداخلية الذي لم يغادر مكانه حتى بعد أن تشكلت حكومة "الوحدة الوطنية" المزعومة. ولحسن الحظ، أظهر الشعب التونسي بأنه يملك وعياً حاداً شحذته عقود القهر والقمع، فتصدى لمحاولة الحزب الدستوري الحاكم الذي تريد قيادته بكل وقاحة الاستمرار في النهج السابق نفسه، مضافاً إليه بعض التغيرات الديكورية. يزعم رجال الحزب الحاكم بأن لا بديل له ولا يمكن إزاحته عن السلطة خشية ان يتكرر ما جرى في العراق، متجاهلين الفروق الكبيرة بين الحالتين العراقية والتونسية. ففي تونس الخضراء، تملأ جماهير الشعب وقواه السياسية المقاومة للديكتاتورية، ليس فقط الشوارع، ولكن الفراغ السياسي الذي أحدثه إنهيار سلطة ابن علي، وهو ما لم يكن متوفراً في الحالة العراقية بعد إحتلال بلاد الرافدين من طرف قوات العدوان الامريكي وإنهيار النظام البعثي.
صحيح أن القوى السياسية التونسية البديلة لنظام التجمع الدستوري موجودة وهي تطرح مطالبها بقوة ومسنودة بجماهير غفيرة تعرف ما تريد، لكن الحاجة الآن لوحدة هذه القوى والتقائها في جبهة شعبية متحدة ضد الدكتاتورية اصبح أمرأً مصيرياً. لقد راكم الحزب الحاكم خبرة عشرات السنين في مقاومة الارادة الشعبية وقمع القوى المعارضة لإستبداده، وليس من المستبعد أن يواصل اليوم محاولاته للتلاعب والخداع والمراوغة من أجل إبقاء سيطرته على البلاد، متوهماً بأن الخراب سيعم تونس إذا ما تخلى عن السلطة. من الضروري جداً لإنتصار الثورة الشعبية التونسية أن تلتقي الأحزاب والقوى الديمقراطية التونسية اليوم قبل الغد على برنامج حد أدنى لمواجهة محاولات إجهاض الثورة والسير قدماً من أجل تحقيق أهدافها بالكامل، وذلك في إطار جبهة شعبية تونسية متحدة تكون هي التجسيد السياسي والتنظيمي للثورة والجهة الوحيدة التي يتوجب على نظام حزب التجمع مخاطبتها والتفاوض معها من أجل تنظيم مهمات المرحلة الانتقالية وفقاً لما تريده الجماهير التي إطاحت بسلطة الدكتاتور. وفي الوقت نفسه تكون هذه الجبهة العتيدة الإطار الذي تنتظم الجماهير داخله لحماية الثورة. فقوى الحكم البائد لن تسلم بهزيمتها بسهولة وستظل تلجأ إلى مختلف الطرق من أجل إخضاع الجماهير من جديد لحكم الحديد والنار.
على صعيد آخر، تمثل الثورة التونسية الراهنة إنعطافة تاريخية في حياة الشعوب العربية وهي، إن نجحت وسارت في طريقها حتى النهاية، ستشكل سابقة سوف تحاربها أنظمة الطغيان والإستبداد العربية بلا هوادة. لسوف يتحقق ولأول مرة في التاريخ العربي المعاصر إمكانية إقامة نظام سياسي ديمقراطي شعبي حقيقي، أي النقيض للنظام العربي القائم حالياً على التبعية والاستبداد والاستغلال. ووفقاً لبعض المعلومات فقد بدأ التآمر الواسع والمحموم ـ محلياً وعربياً ودولياً ـ لإجهاض هذه الثورة أو احتوائها لكي لا تنتشر مفاعيلها في الأقطار العربية الأخرى. من هنا تبرز الحقيقة التالية وهي أن مشاعر الفرح ومظاهرات التأييد للشعب التونسي التي وقعت في معظم الأقطار العربية ـ على أهميتها ـ إلا أنها لا تكفي. هناك حاجة ماسة لبناء جبهة شعبية عربية مساندة للثورة التونسية، اليوم قبل الغد ـ لأن أي تراجع لهذه الثورة ـ بفعل شدة التآمر عليهاـ سيصيب الشعوب العربية وقواها الديمقراطية كلها بالاحباط. إن التضامن مع الثورة التونسية وقواها المناضلة ودعمها بكل السبل المعنوية والسياسية والمادية هو ـ في الوقت نفسه ـ دعم لقوى التغيير والديمقراطية والتقدم في الأقطار العربية الأخرى. هذا ليس كلاماً إنشائياً أو عاطفياً ؛ إنه حقيقة ملموسة وحاجة قائمة. التقاعس عن دعم أحرار تونس اليوم في مواجهة أعدائهم ـ وهم كثر وأقوياء ـ ستدفع القوى الديمقراطية العربية ثمنه غداً غالياً. عمان ـ الأردن
|