كتب ابرهيم حيدر:
تطرح حركة الاحتجاجات في عدد من الدول العربية اسئلة متفاوتة عما يمكن أن تحققه من مطالب، وتثير في المقابل تساؤلات عن حقيقة ومستقبل الإصلاح في العالم العربي. هذه الظاهرة التي انفجرت في تونس والجزائر على وقع الأزمة المعيشية وارتفاع الأسعار، وكادت ان تأخذ مساراً آخر في الأردن، فيما بقيت تحت سيطرة النظام في مصر، وهي جامدة في لبنان بفعل أزماته السياسية والطائفية، وتم تطويقها في البحرين، لم تغير من الواقع شيئاً، انما كرست الأزمات القائمة وعمقتها، لعجز هذه الانظمة عن الاستجابة لمطالب المحتجين أولاً، ولعدم قدرة حركة الاحتجاج على السير باستقلالية ظاهرتها الى النهاية.
لكن كيف تصنف النظم العربية السياسية طبيعة الاحتجاجات؟ هي تصفها دوما بأنها عمل ارهابي وتخريبي، وتحركها جهات خارجية. أما الوسيلة الرئيسة لمواجهتها واخمادها، فبالقمع، من دون الاكتراث الى ما يمكن أن تحدثه من تكريس للازمات وتعميق للانقسام المجتمعي، حتى وان اقدمت على اجراءات لخفض الاسعار ومضاعفة التقديمات. وعلى المقلب الآخر، فإن الاحتجاجات تتجه الى الفوضى من دون ان تتمكن قيادات الحركة الاحتجاجية من ضبط الشارع، مما يزيد الواقع تأزماً وتصبح القوة هي المعيار لمعالجة المشكلة.
الاحتجاجات لصيقة بالنظم السياسية
على وقع ما حدث في تونس من سبه انتفاضة، بدأت بمطالب معيشية وادت الى فوضى في المدن لم يحسمها الا تدخل الجيش، وفي الوقت عينه كانت الجزائر الدولة تستوعب الحركة الاحتجاجية، فيما النار لا تزال تحت الرماد في المغرب ومصر والأردن واليمن، ولبنان ايضاً، فإن مسار هذه التحركات جميعها لا يبعث على احداث تغييرات أو تطوير في هذه الأنظمة، وان كانت بعض الاحتجاجات، كما في الحالتين التونسية والجزائرية مثلاً، تعبر عن حركات احتجاج اجتماعي في المرتبة الأولى، إنما في بقية الدول تحمل مزيجاً ما بين السياسي والاجتماعي، كما في المغرب ومصر والاردن، وحال استقطاب سياسي وطائفي ومذهبي على ما حصل في البحرين، وتحريك سياسي وطائفي ومذهبي، كما في التجربة اللبنانية، والتي لم تكن تاريخياً على هذا المنوال.
ويصادف ان كتاباً بعنوان: "الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي"، يدرس حالات مصر والمغرب والبحرين ولبنان، صدر أخيراً عن مركز دراسات الوحدة العربية يقارب الاحتجاجات في هذه الدول، قبل ان تندلع في تونس والجزائر ودول مرشحة أخرى، مسجلاً طابع التنوع والتمايز والتشابه في ما بينها، وليستنتج بأن ظاهرة الاحتجاجات في الدول العربية، غالباً ما تكرس الأزمات وتعمقها، فيما الأنظمة تتحايل على المطالب ولا تنفذ تعهداتها.
وتبدو علاقة الحركات والاحتجاجات في النظم العربية القائمة علاقة مركبة، وفق الباحثين في الكتاب، فحتى في النظم السياسية التي تعرف تداولاً للسلطة، كلبنان، ظلت ديموقراطيتها مقيدة بأعراف عائلية وطائفية عطلت من تطورها، في حين بقي النظام السياسي المغربي النموذج الافضل نسبياً ما بين نظم التعددية المقيدة التي تضم مصر والجزائر واليمن والسودان. أما البحرين فهي تشهد تعددية فكرية وسياسية، وليس حزبية، لكن قيودها كثيرة، وأهمها حضور البعد المذهبي في صراع كثير من الحركات الاجتماعية في النظام القائم.
تونس ودول عربية...
قبل اندلاع حركة الاحتجاج الاجتماعي في مدن الجنوب التونسي وانتقالها الى العاصمة ومدن أخرى، كانت الأخبار تتناقل عن حالات من الفقر المدقع في عدد من المناطق التونسية، أدت الى حالات وفاة عديدة. وتحدثت التقارير عن الفجوة الهائلة في التنمية ما بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية الجنوبية. فمناطق الشمال تحظى بحصة الأسد من التمثيل في مؤسسات الدولة السياسية وفي القطاعات الاقتصادية المتنوعة، وأبرزها السياحة.
وبرغم الاحتجاجات التي قاربت الانتفاضة في تونس، لم يطرأ أي تغيير على السياسات الداخلية، بل إن الاجراءات المتبعة أشارت إلى الاصرار على مقاومة أي اصلاحات ممكنة من جانب السلطات، وفرضت الحكومة المزيد من القيود السياسية، ومن بين الاجراءات اقفال الجامعات وتشديد الرقابة على وسائل الاتصال الحديثة، إضافة الى اعتقال عدد من المعارضين.
وتدل الاحتجاجات على إحباط سياسي واقتصادي وعلى صورة نموذجية للنمط السائد في العالم العربي، وهو نمط تكرر في الجزائر ويتكرر في العديد من الدول العربية، حيث تتصاعد حركات الاحتجاج الاجتماعي في ظل غياب الاصلاح السياسي وضعف المشاركة الشعبية ومحدودية تأثيرها. وفي الأردن تتصاعد حركات الاحتجاج الاجتماعي على خلفية الاعباء المعيشية المفروضة على المواطنين الأردنيين، فحالات الفوران الاجتماعي وتصاعد العنف داخل المجتمع ما هي الا مقدمة لتحركات على مستوى أوسع.
ويبدو أن جدال الاصلاح لم يلامس الواقع العملي الذي يعيشه المواطن العربي، فهو إما خطابات رنانة تدين الفساد وسوء توزيع الثروة، وتشيد بأهمية التنمية السياسية والاقتصادية، وتفاخر بالكوتات النسائية التي تفوقت فيها تونس على سائر الدول العربية. فالإصلاح بحسب الخبراء، يجب أن يحمل في طياته إعادة نظر واقعية ودقيقة للحالة الاقتصادية والاجتماعية، وليس ترفا فكريا أو سياسيا يعززه الثقة المفرطة بالأجهزة الأمنية.
وتمثل اليمن نموذجا آخر، وان كانت أوضاعه مرتبطة بصراعات اقليمية، فأساس الحركات الاحتجاجية في الجنوب مثلاً اقتصادي واجتماعي، إلى جانب كونه يتعلق بسوء الإدارة ورداءة التمثيل السياسي الذي يتيح المجال لوضع استراتيجية تنموية متوازنة.
الصورة الجديدة للاحتجاجات
أصبحت الاحتجاجات الاجتماعية واقعاً تحاول الدول العربية التعايش معه، في تونس ومصر واليمن والجزائر والمغرب، وان كانت بعض الدول تعتبر نفسها غير معنية بهذه الظاهرة، فإن نار الاحتجاجات تبقى تحت الرماد. ووفق الباحثين، فإن انسداد افق التغيير والتطور، يخشى معه أن تتطور الاحتجاجات في السنين المقبلة لتتحول إلى حركات انفصالية أو أفكار شديدة التطرف، مما يصعب السيطرة عليها. كما أن اشتداد الأزمات الاقتصادية والديموغرافية يفتح أبوابا جديدة للشكل الذي سيكون عليه الصراع السياسي والاجتماعي في العالم العربي خلال السنوات العشر المقبلة.
ويمكن قياس ذلك الى ما يحدث في السودان، وما يمكن أن يحدث في دول عربية أخرى تحمل الصواعق المتفجرة نفسها التي أسهمت في انفجار العنف وتطوره إلى حركات انفصالية أو عنفية متشددة، فالمعالجة الامنية للملفات الاقتصادية والاجتماعية ما زالت الخيار الامثل لدى السلطات في العالم العربي.
ولعل ما حدث ويحدث في تونس والجزائر والسودان واليمن ومصر مؤشر واضح على النمط الذي سيسود في السنوات المقبلة، مما يستلزم الشروع بالاصلاح وتوسيع المشاركة الشعبية. في مصر، دخلت البلاد مرحلة جديدة بعد مواجهات مدينة المحلة العمالية في نيسان عام 2008، وتتمثل في ان الخطر الحقيقي لم يعد، بحسب الكتاب، خطر التنظيمات السياسية، انما خطر الاحتجاجات الاجتماعية العشوائية، ولأن السلطة المصرية عاجزة عن تحقيق المطالب للاحتجاجات المتوقعة، سيصبح هناك خطر حقيقي من ان تتحول من المجال الاجتماعي الى المجال السياسي.
أما في المغرب، فإن السبب الرئيس لتحول الاحتجاجات الى حركات سلمية، هو ما طرأ على بنية النظام السياسي، وتحوله من نظام مغلق الى نظام سياسي مفتوح نسبياً. وتشير بحوث الكتاب الى ان الحركات الاحتجاجية الاسلامية والأمازيغية في المغرب تراجعت لعدم تمكنها من مقارعة النظام وقدرته على الحد من قوة الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية من خلال اجراءات عدة. لكن المؤكد، وفق الكتاب، أن الحالة المغربية هي الأكثر تسيساً من نظيرتها المصرية، فالجيل الجديد من الحركات الاجتماعية اتسم بالعفوية وببعده عن التنظيمات الرسمية، وفي ذلك دلالة على غياب المؤسسات الوسيطة التي تعمل كحلقة وصل ما بين تلك الحركات والنظام السياسي.
وتختلف تجربة البحرين عن غيرها من الدول العربية في ما يتعلق بحركات الاحتجاج. فبحسب بحوث الكتاب، تقوم معادلة الاحتجاجات الاجتماعية في البحرين على ثنائية الصراع ما بين أقلية مذهبية مسيطرة على مقاليد الحكم والسلطة، وأغلبية مستبعدة من الحكم والسلطة، برغم ان عددا من الاقلية يعتبرون جزءاً من المنظومة الحاكمة سياسياً واقتصادياً.
وعانت البحرين وفق الكتاب، مشكلتين اساسيتين. كلتاهما ناتجة من طبيعة النظام السياسي البحريني، الذي يمثل اقلية، ويسعى الى تعزيز قوته الاقتصادية، بل تغيير التركيبة الديموغرافية، وهما: "الدفان" والتجنيس، فالدفان هو ردم مساحات شاسعة من البحر لزيادة مساحة الأراضي، والتي يتحكم بها الملك، أما التجنيس فهو السعي الى اعطاء الجنسية لوافدين من دول أخرى، مما أدى الى ظهور حركات احتجاجية اتخذت أشكالاً ووسائل مختلفة، من العرائض والشكاوى الى التظاهرات وأعمال الشغب.
... حضور الطائفي والمذهبي في لبنان
تبدو صورة الحركات الاحتجاجية في لبنان، أكثر تعقيداً مقارنة بالدول العربية الأخرى، وإن كانت فاعلة في زمن الدولة قبل الحرب. وتشير بحوث الكتاب الى ان هذه الحركات تأثرت بطبيعة نظام لبنان السياسي، سواء من حيث بدء التأريخ لمرحلة جديدة من الحركات، أو من حيث نوعيتها وتأثرها بالقوى السياسية اللبنانية.
وإذا كان "الطائف" قد اسس لنظام قائم على المحاصصة الطائفية، فإن خصوصية لبنان تميزه عن غيره ببنيته الطائفية، وارتباطه بالمحيط الخارجي وتأثره به سواء الإقليمي أو الدولي. وقد طغت على لبنان التحركات الاحتجاجية السياسية والأمنية والطائفية خلال السنوات الماضية، فيما تراجع العامل الاجتماعي الى الخلف بفعل سيطرة القوى السياسية على حركة النقابات العمالية والاتحادات، فبات الاجتماعي يتحرك لمصلحة السياسي والطائفي، وهو في خدمته، بعدما فقد استقلاليته.
ولعل الانقسام السياسي في لبنان، الذي يعكس الصراع الاقليمي والدولي، جعل التحركات الاحتجاجية اكثر اتصالا بالخارج، وانعكس على مسار الاحتجاجات الاجتماعية، بصورة بات من الصعب فصلها، ليس فقط عن الواقع السياسي، انما أيضاً عن القوى السياسية والمذهبية. ولعل تحرك الاتحاد العمالي العام في 7 أيار عام 2008، خير دليل على هذا الاستنتاج، إذ تحول الاحتجاج الى مواجهات مسلحة بنزول حزب الله الى الشارع، ونتج عنه اتفاق الدوحة، فيما الصراع لا يزال مستمراً تحت عناوين سياسية رئيسية، من المحكمة الدولية الى شهود الزور الى حجم التمثيل بحجم القوة السياسية والعسكرية الفاعلة على الأرض.
ويبدو ان الهم المعيشي والاجتماعي عند اللبنانيين، بات أسير الاصطفافات السياسية والطائفية. فالحركات الاحتجاجية الاجتماعية والسياسية كانت سباقة في لبنان، ولها أثر مهم في الحياة اللبنانية قبل الحرب، لكنها سقطت اليوم بفعل الانقسام والاصطفافات، حتى ان الاحتجاجات الوطنية لا تسلم من التسييس الطائفي، فيما كل الحوادث المطلبية والتحركات خرجت عن أهدافها الاجتماعية ودخلت بقوة في مجال الصراع السياسي اللبناني المباشر. ويمكن القول ان تنوع لبنان السياسي والمذهبي جعل الانقسام في بعض الأحيان يأخذ أشكالا أكثر تعقيداً من الحالة البحرينية .
واذا كان في لبنان حركات اجتماعية متنوعة، تبنت مطالب اجتماعية أو سياسية، الا انها ظلت في غالبيتها الساحقة جزءاً من المعادلة الحزبية والسياسية الطائفية. لكن من الطبيعي في حال التوافق اللبناني والسير قدماً في بناء دولة القانون، وكسر جزء من المعادلات الطائفية المهيمنة على النظام السياسي اللبناني، أن تبدأ الحركات الاجتماعية مجدداً في بناء حيز مستقل يتأثر بالأحزاب والتجاذبات السياسية، ولكن لا يكون صنيعتها. فحين تتعمق التجربة الديموقراطية اللبنانية من خلال بناء المؤسسات، تتعمق خبرة الحركات الاجتماعية ودور النقابات، ويصبح هناك فرصة لنسج علاقة صحية ما بين المجالين السياسي والاجتماعي. وهو أمر ما زال غير متوافر اليوم!
|