السبت, 22 يناير 2011 حازم صاغيّة
أحسنت الحركة الشعبيّة في تونس باستمرارها في الضغط لإحداث تعديل يأتي لمصلحتها، في توازن القوى كما في صورة المستقبل. هكذا، وفضلاً عن فرار زين العابدين بن علي، شُرّع قانون عامّ يعترف بالأحزاب كافّة، وحُمل زهير المظفّر، أحد وزراء حزب التجمّع، على الاستقالة، وحُلّت اللجنة المركزيّة لهذا الأخير كما فُكّت قبضته عن أملاكه ومبانيه. ولئن صودرت أملاك تعود إلى الأسرة الحاكمة، فقد استقال من الحزب الحاكم مَن ورثهم الوضع الجديد عن الوضع السابق وتعهّدوا بـ «القطع مع الماضي». وهذا يعني، منظوراً إليه في مجمله، أنّ الانتفاضة تجاوزت إطاحة حاكم فرد لتطيح أيضاً عدداً من العلاقات والرموز، ما يتيح الرهان على شقّ طريق جديدة تفضي إلى جمهوريّة ديموقراطيّة.
السيناريو هذا، الذي يبدو مغايراً للتجارب العربيّة، يحمل بعض التذكير بتجارب أوروبا الجنوبيّة القريبة أيضاً إلى تونس. فالتحوّلان الإسبانيّ، بعد رحيل فرانكو، والبرتغاليّ الذي أنهى حكم كايتانو، وكذلك اليونانيّ الذي وضع حدّاً لحكم العسكر...، نجحت كلّها في أن تعيد الاعتبار إلى الديموقراطيّة وأن ترسي الاستقرار. وهي كلّها، قياساً بتجارب «العالم الثالث»، قابلة لأن توصف بالتدرّج وبجرعة تجريبيّة نازعت جرعتها الإيديولوجيّة ثمّ تغلّبت عليها.
وهذا، بالضبط، ما لم تعرفه الثورتان الروسيّة في 1917 والإيرانيّة في 1979: فالأولى، مستفيدة من ظرف الحرب العالميّة الأولى، قضت على فرصة إنشاء الجمهوريّة الديموقراطيّة التي ارتبطت باسم كيرنسكي، والثانية أنهت الاحتمال المشابه الذي رمز إليه شهبور بختيار، ثمّ، وبالاستفادة من احتلال السفارة الأميركيّة ومن حرب صدّام على إيران، التهمت أبناءها الأعقل ممّن كانوا يراهنون على «مصالحة الإسلام والديموقراطيّة». وفي الحالتين نشأ في روسيا نظام توتاليتاريّ استدعى التخلّص منه ثلاثة أرباع القرن، كما نشأ في إيران حكم مَلالٍ ثيوقراطيّ وديكتاتوريّ يستمدّ استمراره من توتير محيطه.
تُستعاد هذه الأمثلة وغيرها للقول إنّ الحركة الشعبيّة التونسيّة مطالَبة بالتعلّم منها. ذاك أنّ تصليب الانجازات الكبيرة المتحقّقة هو المهمّة التي تستدعي الرعاية على نحو يحوّلها منصّة انتقال إلى الديموقراطيّة. أمّا المطالبون بأكثر من هذا فربّما كانوا يطالبون بما لا تستطيع المعدة التونسيّة هضمه. وعلى رغم الفوارق الكبيرة بين التجربتين، يبقى «اجتثاث البعث» في العراق سبباً وجيهاً لعزوف التوانسة عن المضيّ في راديكاليّة تستأصل الوضع السابق استئصالاً. وهنا ينبغي ألاّ ننسى أنّ نظاماً يستمرّ منذ 1987، عطفاً على العقود البورقيبيّة السابقة، لا يقتصر تمثيله على فاسدين ومارقين وسارقين: فهناك أعداد، في قاعدة النظام السابق، جرّها ما لا يُحصى من الأسباب إلى الموقع الذي تموضعت فيه. ومثل هؤلاء لا بدّ من استمالتهم إلى الديموقراطيّة بالمعنى الذي نجح فيه خوان كارلوس وفيليبي غونزاليس من استمالة قطاعات فرانكويّة واسعة إلى ديموقراطيّة إسبانيا.
يهبّ في مواجهة هذا المنطق منطق آخر خطير يريد كلّ شيء الآن، ويريده دفعة واحدة. والقائلون بهذا لا يبذلون الانتباه الكافي إلى الفراغ الذي لا بدّ أن ينشأ في هذه الحال. وغنيّ عن القول إنّ فراغاً كهذا يشجّع الفوضى أو الإسلاميّين على ملئه كيفما اتّفق، أو يشجّع الجيش الذي تصرّف حتّى الآن تصرّفاً بالغ المعقوليّة، على أن يتصدّى للحكم بوصفه الحارس لأمن البلد حيال الفوضى كما حيال الإسلاميّين. هنا ينقلب الأكثر ليصير أقلّ.
|