عبد الإله بلقزيز
ينطلق دعاة الليبرالية العربية من فرضية مفادها أن الدولة الوطنية القائمة تعاني من نقص في الشرعية بسبب مضمونها السياسي الاستبدادي، فهي دولة الحاكم الفرد المطلق السلطة، المتحلل من قيود القانون والرقابة الشعبية، المتصرف في شؤون الدولة تصرفه في شؤون أملاكه الخاصة. من النافل القول إن هذه الأفكار ليست جديدة تماماً على الوعي السياسي العربي، ولم تقترن زمنياً بميلاد التيار الليبرالي في مطلع القرن العشرين، في مصر وبلاد الشام، وإنما نجد أصداءها تتردد عند نهضويي القرن التاسع عشر منذ رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي حتى عبدالرحمن الكواكبي. غير أنها، مع الليبرالية العربية في النصف الأول من القرن العشرين، ستأخذ أبعاداً أكبر: مع أحمد لطفي السيد ابتداء وتأسيساً، لأنها لن تعود مجرد أفكار ومبادئ ضمن رؤية عامة للنهضة تتداخل في تكوينها وتحقيقها أبعاد أخرى مختلفة، بل ستصبح عند الليبرالية العربية هي النهضة عينها والمشروع الفكري والسياسي الذي يقود إليها.
ألح الكواكبي، في مطلع القرن العشرين، على أن الداء الذي يفتك بالدولة والمجتمع هو الاستبداد وأن دواءه ما سماه الشورى الدستورية. سيردد أحمد لطفي السيد الفكرة عينها ولكن بوضوح أكبر في الرؤية ينزاح عنه غموض المفهوم السياسي وتركيبه الهجين بين منظومتين فكريتين (شرعية وليبرالية). الدستور هو الجواب السياسي عن معضلة الاستبداد، لأنه القانون الأعلى الذي تنتظم به أمور الدولة وتتحدد به السلطات والاختصاصات وتنتهي المشيئة والهوى والمزاج كآليات تقليدية في إدارة سلطة الدولة. انه المفتاح السحري لفتح الطريق أمام قيام الدولة الوطنية الحديثة واكتسابها الشرعية على مثال ما حصل في المجتمعات الأوروبية الحديثة. فالدستور وحده يعيد الدولة إلى المجتمع كملكية مصادرة منه من قبل فرد أو أسرة أو مجموعة اجتماعية، ويقيمها على مقتضى القانون بما هو تعبير عن الإرادة العامة.
من النافل القول إن الليبرالية العربية، في إلحاحها على الدستور وفصل السلطات والتمثيل النيابي، كانت تخطو خطوة أبعد في تمثلها واستيعابها للمنظومة الفكرية الليبرالية ونصوص كبار ممثليها (جون لوك، مونتسكيو، جان جاك روسو..)، لكنها كانت، في الوقت عينه، تجيب عن واقع سياسي قائم في مصر وأنحاء الإمبراطورية العثمانية آنذاك، هو واقع سيطرة نموذج النظام الملكي المطلق. ومن الطبيعي ألا تجد ما يسعفها في الرد عليه سوى استعارة مفاهيم الفكر الليبرالي الأوروبي الحديث. وقد يكون صحيحاً أنها تمثلت لحظات مختلفة من ذلك الفكر، كانت الواحدة منها ثمرة لظرفيتها التاريخية وعصرها، وبالتالي خلطت بينها فضاع من خطابها التماسك الفكري والرؤيوي، ولكن حاجتها إلى الأفكار الليبرالية، في معزل عن وجود أو غياب تماسك نظري، حاجة تاريخية وسياسية أكثر مما هي حاجة فكرية ومعرفية، وهو ما يكرس البعد النفعي لأفكارها ويشفع لتمثلها العابر للحدود بين المقالات الليبرالية الأوروبية والمغضي عن منظوميتها.
وليست المناسبة مناسبة تقويم المضمون الفكري لليبرالية العربية، ولكننا سقنا الملاحظة لإلقاء ضوء سريع على فكرة ليبرالية عربية أخرى زاحمت فكرة الدستور وكادت تضعها جانباً هي فكرة الحرية، وحرية الفرد على نحو خاص، وهي ترددت كثيراً في كتابات لطفي السيد وبدت وكأنها مفتاح شرعية الدولة المنقوصة الشرعية. وليست المشكلة في مبدأ الحرية كواحد من أساسات الفكر الليبرالي، منذ القرن السابع عشر، وإنما في ما آل إليه في ذلك الفكر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع جون ستيوارت ميل، من معانٍ جديدة وضعت الحرية في مقابل الدولة الوطنية، وهي المعاني التي تسربت إلى فكر أحمد لطفي السيد وغيره من الليبراليين العرب وغيرت من معنى شرعية الدولة، وتلك قرينة على فداحات ذلك الخلط بين أزمنة الفكر الليبرالي الأوروبي في الوعي العربي.
انتقلت الليبرالية العربية سريعاً من الدفاع عن الدستور والنظام التمثيلي وتوزيع السلطات والفصل بينها، إلى الدفاع عن الفرد والحرية الفردية في وجه الدولة. كان ذلك بأثر من قراءة مصادر الليبرالية الأوروبية المتأخرة، في نهاية القرن التاسع عشر، خاصة في بريطانيا، وكان من نتائج ذلك الانتقال أن حصل بعض التغيير في وعي مسألة شرعية الدولة في خطاب تلك الليبرالية، ففيما كان نقص الشرعية يُرد عندها إلى أنها دولة مجردة من ماهيتها القانونية (= الدستور، والتمثيل النيابي، والفصل بين السلطات)، أصبح النقص فيها من فعل دولة تصادر حريات الأفراد باسم الشعب أو الحق العام أو القانون. وإذا كان يمكن تدارك أزمة الشرعية، في الحالة الأولى، من طريق إصلاح منظومة الدولة بإقامتها على مبدأ القانون، فإن تداركها في الحالة الثانية يكاد يمتنع من دون الحد من سلطة الدولة، وهذا كان الوجه المتطرف من تلك الليبرالية الذي لم يكن يقابله في التطرف سوى تأميم الدولة أو تأليه دورها.
في الأحوال كافة، ظل الخطاب الليبرالي العربي متوجساً من دولة لم يقم أمرها تماماً على مقتضى حديث، حتى في حقبتها الكولونيالية التي كتب فيها أحمد لطفي السيد، وهو توجس تفاقم منذ ثلاثينات القرن العشرين حين بدأت الليبرالية العربية تستشعر خطر صعود الدعوات المتزايدة إلى الوصل الماهوي بين الدولة والدين، وكانت مصر مهدها وساحتها الرئيس لحظتئذٍ.
|