عبد الرحمن الراشد
لا أدري متى بدأ تداول مصطلح "الليبرالية" شعبيا، لكنه بالتأكيد طرأ حديثا في مجتمعنا. أول من أطلقه المتطرفون من قبيل ذم خصومهم، وعلى عادتهم يقذفون الآخرين بمصطلحات، مثل "الحداثة"، لا يفقهون معناها، ولا يدرون أنها جميلة. وهكذا ذاع المصطلح وبقي. اليوم أنت، مهما كنت، إما محافظ وإما ليبرالي. ولا يهم إن كنت تدري أو لا تدري معناها، هي مجرد وصف لحالة، مثل أن تسمي أحدهما سمينا وآخر نحيفا. وهم على حق هذه المرة، فمدلول "الليبرالي" مرن وفضفاض، يصلح أن ينعت به كل من خرج عن المحافظة بوصة واحدة، رغم محاولات البعض تقييده علميا. والحقيقة أن الهجوم على الليبرالية هذه الأيام، أمر تثقيفي جيد، لأنه يدل الكثيرين عليها، حتى وإن كان هدفه ربما تضليل الجمهور أو تخويفهم، زاعمين أنها إلحادية وتغريبية، وغيرها من الترهات! الحقيقة أن الليبرالية هي الفكرة الوحيدة التي قد لا تحتاج إلى محاضرات شرح طويلة، ولا إلى جلسات كهرباء للقبول بها أو التخلي عنها.
هي مفهوم إنساني بسيط يؤمن بحرية الاختيار فقط، وهذه الحرية تضيق وتتسع وفق رؤية كل فرد. فإن اختارت الغالبية أن تكون محافظة، فهذا حقها وخيارها، وإن فضلت العكس، فالأمر لها. لهذا تسمح هولندا بتدخين الحشيش، في حين تسجن الشرطة البريطانية من يتعاطاه. فحرية الفرد مقيدة في النهاية باختيار الجماعة، فإذا كانت غالبية المجتمع محافظة، فخيارها هو الذي يسود. لهذا فالليبراليون، من الناحية النظرية، أقرب الناس إلى الجميع، حيث يفترض أنهم يؤمنون بحق الإسلاميين والشيوعيين والقوميين والمحافظين الاجتماعيين.
الليبرالية رغم "شعبيتها" لا تصلح حزبا ولا تكتلا أو تيارا، ليست حركة سياسية ولا اجتماعا آيديولوجيا.. فكرتها لا تهدد أحدا، لأنها تقبل بكل الأشياء وكل الناس، إنما تصبح شرسة ضد القمع والاختصار والإلغاء والإقصاء. وهذا يفسر عدوانية كتابها عند نقد الآخرين في مسألة الحريات. فمفهوم الليبرالية الاجتماعي البسيط يقوم على مسألة حرية الاختيار.
هي ضمير فرد، لكنها ليست حزبا ولا حركة. لا توجد هناك إخوانية في الليبرالية، أي ليس مطالبا الفرد بأن يضرب عن الطعام، لأن ليبراليا آخر منع الكتابة أو لوحق في معاشه، هذا اختياره وضميره. وعندما تتحول إلى حزب أو حركة تناقض نفسها، تصبح خصما لمنافسيها، في حين أن مفهومها يقوم على القبول لا المزاحمة، ضد الرفض والإقصاء. أزمتها اليوم مع الجماعات الإسلامية تحديدا، لأن آيديولوجيا هذه الجماعة اليوم تمثل أقسى أنواع الاحتكار، تصادر كل شيء. مع هذا ألحظ تطورا مدهشا، وهو أن الكثير من الإسلاميين تحولوا إلى ليبراليين، أعني "ليبراليين إسلاميين". يزدادون يوما بعد يوم للسبب نفسه، لأن الحركة الإسلامية تزداد تضييقا على أتباعها، في حين أن الليبرالية ساحة واسعة للجميع، لا عضوية فيها ولا احتكار. يمكن أن يكون الإسلامي والقومي والشيوعي ليبراليا، لكن يستحيل أن يجتمع الإسلامي والشيوعي في ثوب واحد.
سعة مصطلح الليبرالية يجعلها محيرة وغامضة، مما سهل على خصومها أن يكتبوا مقالات طويلة لتخويف الناس، وينقلوا استشهادات عادة صحيحة، لأنها كتابات أو ممارسات فردية. لكنهم ينسون أن الليبراليين ليسوا متشابهين إلا في ما ندر، بعكس الشيوعيين والإسلاميين. قد تكون ليبراليا ضد العلمانية، وقد تكون ليبراليا علمانيا، فالعلمانية نظام عمل، أما الليبرالية فمبدأ عام يؤمن بالحرية. لهذا قلت إنها تحير كثيرا من الجاهلين بها الذين يحاولون حصرها في صيغة آيديولوجية محددة.
مفهومها يقوم على حرية الفرد في الاختيار لنفسه فقط. وهناك أوصاف عرف بها الليبراليون، مثل أنهم ضد الأممية والشوفينية، ومع الحقوق المتساوية. وعندما يشار إلى التناقض عند الليبراليين العرب بخروجهم عن روح الحرية التي يزعمونها، لأنهم مثلا يطالبون بمنع التكفيريين، ويدينون الأفكار العدوانية، فلا تناقض هنا، هم على حق ومنسجمون مع موقفهم، فحرية الفرد لا تعني التعدي على الآخرين، كما يفعل التكفيريون وغلاة الشيوعيين.
مدير عام قناة "العربية"
|