القاهرة - أمينة
خيري اللعب على المكشوف، والصراع من دون رتوش، والضربات القاصمة تصدر من القضاء
مرة، ومن إعلاميين جهوريين مرة أخرى، ومن مواطنين «شرفاء» مرة ثالثة. لكن لكل قوة فعل قوة رد فعل،
مساوية لها في المقدار ومعاكسة لها في الاتجاه، وواقفة لها بالمرصاد، إن لم يكن محلياً فدولياً، وهذا
غاية المنى وكل الأمل.
آمال حقوقية عدة معقودة على زيارة الرئيس عبدالفتاح
السيسي إلى الولايات المتحدة اليوم، إذ تتضافر الجهود وتتضامن الكيانات وتتكاتف المنظمات لتعضيد وتدعيم
ونجدة المنظمات الحقوقية المصرية الواقعة في مرمى نيران الدولة تارة، والإعلام تارة أخرى، ومواطنين
«شرفاء» تارة ثالثة.
تزامن الزيارة وصدور أربعة أوامر جديدة قبل يومين بمنع
حقوقيين مصريين من السفر جاء بمثابة فرصة ذهبية وهدية بديعة للمجتمع الحقوقي المناهض لما يعتبره
«تضييقاً من الدولة وترهيباً من أجهزتها وانقضاضاً على وجود المجتمع المدني»، إذ تصدر بيانات الشجب
وتُطلق رسائل الإدانة وتتواتر مطالبات التوقف عن ملاحقة حقوقيين مصريين مشهورين على مدار الساعة هذه
الآونة، أملاً بشحن الأجواء وعملاً على تهيئة الأوضاع ورغبة في رسم لوحة مفادها أن الحقوق في مصر
مهدورة، والمنظمات مغدورة، والمجتمعات الحقوقية مرعوبة.
«الرعب» الحقوقي لا
يكمن فقط في ستة شهور ماضية حفلت بإجراءات قضائية عدة نالت من نحو 12 منظمة حقوقية، بين أوامر منع من
السفر وتجميد أموال واستدعاء عاملين ومديرين وقرارات إغلاق، لكن الوجه الآخر لها هو افتقاد الدعم أو
التعاطف الشعبي معها. هذا التعاطف الذي بلغ أوجه مع انطلاق شرارة الثورة في العام 2011 والأسابيع
القليلة التي تلتها، واعتبار بعض هذه المنظمات ضمن العوامل المشجعة والدافعة على انطلاق الغضبة الشعبية،
انقلب إلى الضد تدريجياً، تزامناً مع تقلص الإيمان الشعبي بالثورة والشك والتشكيك في أركانها ومحفزاتها
ومؤججاتها، وتصاعد مشاعر شعبية متباينة بين كون الثورة مؤامرة خارجية، أو مراوغة «إخوانية»، أو مجرد
مغامرة صبيانية غير محسوبة العواقب.
عواقب الأحكام القضائية التي تصدر تباعاً
في حق منظمات وقائمين عليها ومصادر تمويل تبقي عليها، تتراوح بين بيانات دولية شاجبة وأخرى محلية منددة
وثالثة شعبية تتأرجح بين الشماتة والبلادة. بداية غيث المنظمات المصرية تبدى في بيان صدر عن «فريدوم
هاوس» (إحدى المنظمات الحقوقية الأميركية التي تم إغلاق فرعها في مصر) وجاء فيه انتقاد شديد لـ «التعسف
والتفكيك غير المسبوقين اللذين يتعرض لهما المجتمع الحقوقي مصر في ظل حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي
الاستبدادي ويعرض مصر لخطر متزايد لزعزعة الاستقرار والتطرف». وقالت مديرة برنامج المنظمة في الشرق
الأوسط وشمال أفريقيا دوخي فصيحيان إن «من دون المدافعين عن حقوق الإنسان، لا أمل لمصر في التحول
الديموقراطي والأمن والتنمية الاقتصادية»، مطالبة الرئيس بالتدخل فوراً «للتأكد من إنهاء هذه الحلقة
السخيفة... وعودة قادة حقوق الإنسان إلى عملهم الحقوقي المشروع».
معزوفة
مشابهة صدرت أيضاً عن «منظمة العفو الدولية» التي وصف بيان شديد اللهجة لها قرار «تجميد الأموال» الأخير
بـ «الحيلة المكشوفة لإسكات الناشطين الحقوقيين في مصر» و «ضربة ذميمة لحركة حقوق الإنسان في مصر». ومضى
مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة فيليب لوثر مصرحاً بأن «السلطات المصرية تستخدم هذه
القضية باعتبارها وسيلة لسحق حركة حقوق الإنسان في الدولة. ولا يبدو أن حملة الحكومة الوحشية ضد
المعارضة ستتوقف، بما أن الاختفاءات القسرية والتعذيب أصبحت سياسة الدولة»، وداعياً إلى «إلغاء هذا
الحكم الجائر فوراً»، وواصفاً الأحكام القضائية بأنها «سوء استخدام صارخ لنظام العدالة الجنائية بهدف
منع الناس من التحدث علناً عن حال حقوق الإنسان المتدهورة في الدولة».
لكن
«الناس» تتحدث بكثرة عن حقوق الإنسان، تارة بالتحليل والتفنيد، وأخرى بالتقليل والتهوين، وثالثة
بالتجاهل والتشكيك. تشكيك عارم يجتاح مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية وفي الحياة
الفعلية، ويعبر عن إيمان قطاع من المواطنين بأن تلك المنظمات «قابضة» (تتلقى تمويلاً بغرض بث الفتنة
والفرقة) و «متأمركة» (تنفذ مخططات أميركية) و «شيطانية» (تنفذ مخططات شيطانية لتفتيت البلاد ودفعها إلى
حروب أهلية).
«لا إحنا عايزين حقوق إنسان ولا نشطاء ولا ثوريين. الأيام أثبتت
أنهم يعملون ضد مصالح الوطن ولحساب مؤسسات لها عداء شديد مع مصر، وذات خطط عفنة تهدف إلى تفتيت الدولة»،
علقت مواطنة على «فايسبوك» لتحظى بمئات الإعجابات وعشرات المشاركات. لكن المشاركات المقابلة تحوي كذلك
تدويناً من أحدهم جاء فيه: «ماذا تتوقعون من نظام يكره الحقوقيين الذين يعملون من أجل مواجهة قمع
الحريات وانتهاك الحقوق؟ هو ثأر بايت وتتبدى ملامحه تدريجياً».
وبين رفض قطاع
لملف المنظمات الحقوقية بتشبع كامل وإيمان واضح بأنها منظمات «خائنة وعميلة»، وآخر محلل للموقف ومفند له
في محاولة التفريق بين منظمات تتلقى الملايين المشروطة لتبني قضايا بعينها تفعيلاً لأهداف غربية
وتحقيقاً لغايات دولية، رفض مضاد لتخوين الدولة للناشطين وانجراف الشعب في السكة ذاتها. يرى الموقف
الأخير في القضية 173 لسنة 2011 «بداية لفرض الحصار على المجتمع المدني» أو «الانتقام منه لدوره في ثورة
يناير» أو «ترهيب الحقوقيين».
لكن تبقى غالبية لا يعنيها الأمر كثيراً، إذ
تتراوح أسبابها بين العودة إلى المربع الرقم صفر حيث اعتبار مسائل الحقوق رفاهية لا قبل للشعب بها، أو
التعامل معها من منظور كونها قضية المثقفين الذين يملكون رفاهية الوقت والمجهود للتنظير والتفلسف. ولا
يخلو الأمر من طرافة حين يعاود بعضهم لجوءه إلى الآلات الحاسبة وتقسيم ملايين التمويل بالحق والقسطاس
على الشعب، وهي المهمة التي يتولاها سائق الأجرة المستاء من «الحقوقيين الشرهين الذين أكلوا كعكة
التمويل وحدهم».
ومن «كعكة التمويل» إلى نكبة التحوير، فالمنظمات الحقوقية
نفسها المتضررة اليوم كانت شوكة في حلق نظام «الإخوان»، وخضعت إبان حكمهم لجهود تقويض ومحاولات تدمير،
عبر التضييق على مواردها وتدخل الأمن في عملها وتحذير رئيس وزراء حكومة الجماعة آنذاك هشام قنديل من عدم
الدخول مع «جهات أجنبية» في أي أنشطة إلا بعد موافقة الأمن، وهو ما وصفته المنظمات وقتها بـ «تأميم
المجتمع المدني» و «توجيه ضربة قاصمة للحقوق والحريات» و «تأمين ماكينة القمع والتعذيب من النقد
والمراقبة». لكن تحويراً مهماً طرأ على موقف أذرع الجماعة التي وجدت نفسها متضامنة مع المنظمات وداعمة
لحريتها في تلقي التمويل وعدم الإفصاح عن المصادر والمشاريع، ومن أعتى المدافعين عنها في وجه «نظام جائر
انقلب على الشرعية والشريعة».
محكمة مصرية تؤيد منع نشطاء من التصرف في أموالهم
أيدت محكمة جنايات القاهرة أمس طلب هيئة التحقيق القضائية، التحفظ على أموال عدد من النشطاء والقائمين على مراكز حقوقية ومنعهم من التصرف فيها، على خلفية التحقيقات التي تجري في شأنهم في اتهامهم بـ «تلقي تمويل أجنبي من جهات خارجية بالمخالفة لأحكام القانون».
وشملت أوامر التحفظ والمنع من التصرف في الأموال التي أيدتها المحكمة، كلاً من المحامي جمال عيد مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، والناشط حسام بهجت مؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ومديرها السابق، وبهي الدين حسن مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وعبدالحفيظ السيد عبدالحفيظ مدير المركز المصري للحق في التعليم، ومصطفى الحسن طه آدم مدير مركز هشام مبارك للدراسات القانونية. كما قضت المحكمة برفض أوامر المنع من التصرف في الأموال الصادرة بحق زوجة جمال عيد ونجلته القاصر، وزوجة بهي الدين حسن وبناته القصّر الثلاث، وشقيقه، ومصطفى محمود أحمد الباحث في مركز القاهرة لحقوق الإنسان.
والمراكز الثلاثة التي تم منع التصرف بأموالها هي مركز هشام مبارك للدراسات القانونية ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان والمركز المصري للحق في التعليم.
وكان المستشارون هشام عبدالمجيد وأحمد عبدالتواب وخالد الغمري، قضاة التحقيقات المنتدبين من محكمة استئناف القاهرة، أصدروا قراراً بمنع النشطاء المذكورين من التصرف في أموالهم وممتلكاتهم كافة، على ضوء ما كشفت عنه «التحقيقات الأولية في قضية التمويل الأجنبي غير المشروع» التي تعود بدايتها إلى عام 2011 وتعرف إعلامياً بقضية التمويل الأجنبي.
جدير بالذكر أن التحقيقات التي تباشرها هيئة التحقيق القضائية، تشمل العديد من أصحاب المراكز الحقوقية المتهمين بـ «تلقي مبالغ مالية كبيرة من جهات أجنبية وخارجية، على نحو مخالف لأحكام القانون».
ودعت (رويترز) المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في بيان صدر بعد النطق بالحكم «القوى السياسية والحركات الشعبية المؤمنة بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية للتضامن مع حركة حقوق الإنسان المصرية وبذل كافة الجهود لضمان استمرار الحركة في القيام بدورها».
وأضافت في موقعها على الإنترنت أنها عازمة على «الاستمرار في أداء دورها في الدفاع عن الحقوق والحريات والنضال من أجل تغيير السياسات العامة والممارسات الأمنية المناهضة لحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والسياسية».
واتهمت المنظمة مؤسسات الدولة بالاستمرار في «الهجوم على كافة أشكال التنظيم والمبادرات المدنية في مصر خلال ما يزيد على الثلاث سنوات» في إشارة إلى الفترة التي تلت (تموز) يوليو 2013 الذي شهد عزل الرئيس السابق محمد مرسي عقب احتجاجات حاشدة على حكمه.
وقال طايل مدير مركز الحق في التعليم لـ «رويترز» إن «الحكم ليس نهائياً ويمكن تقديم تظلم في شأنه وإن كنا نعلم أنه لن يلاقي أي صدى أو تأثير. فالاتجاه العام لدى أجهزة الدولة هو خنق حركة حقوق الإنسان في مصر». وأضاف أن «الدولة لا تحب وجود مجتمع مدني قوي ليحقق توازناً مع تغول الدولة على حقوق المواطنين».
وقالت 7 منظمات حقوقية في بيان: «لقد بدا واضحاً أن مقاضاة قيادات المنظمات غير الحكومية المصرية المستقلة، على خلفية اتهامات مرتبطة بنشاطهم المشروع في مجال حقوق الإنسان أصبح خطراً وشيكاً».
ووقعت على البيان منظمات عدة منها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ومركز النديم. وقال البيان إن عدد المطلوبين للتحقيق في شأن نشاطهم الحقوقي وصل إلى 17 حقوقياً وحقوقية، معتبرة أن «تلك الإجراءات القمعية وغيرها نالت من 12 منظمة مصرية حقوقية مستقلة على الأقل».
وأضاف البيان: «بالتزامن مع الدفع بوتيرة التحقيقات في القضية، ترتفع يومياً معدلات الاعتقال التعسفي، والحبس لفترات طويلة بالمخالفة للقانون، والتنكيل بالسجناء السياسيين، بالإضافة إلى التصعيد المستمر ضد نقابة الصحافيين والأصوات المعارضة القليلة في الإعلام، بالإضافة إلى استمرار حبس المحامي العمالي هيثم محمدين والذي عمل لسنوات بمركز النديم لتأهيل ضحايا العنف».
وتوقعت تلك المنظمات أن يصدر قريباً قرار اتهام بحق قيادات المنظمات غير الحكومية المصرية والعاملين فيها، استناداً لما جاء في تحريات الأجهزة الأمنية في قضية التمويل الأجنبي بأن نشاط منظمات حقوق الإنسان يضر بالأمن الوطني. وقالت: «وفقاً لأوراق القضية، فالدليل على ارتكاب المنظمات الحقوقية لجرائم مضرة بالأمن القومي، يكمن في النشاط الحقوقي لتلك المنظمات». |