الاربعاء, 19 يناير 2011
منى مكرم عبيد *
لم يندمج الأقباط اندماجاً كاملاً في المجرى الرئيسي للحياة السياسية في مصر إلا مع ميلاد الدولة الحديثة والمجتمع المدني بدءاً بعصر محمد علي (1805 - 1848) وهو أول حاكم مسلم يزيل عن الأقباط صفة «أهل الذمة»، ويمنحهم المواطنة الكاملة بما في ذلك تجنيدهم أسوة بالمسلمين المصريين.
وعندما تولى سعيد باشا الحكم صدرت التشريعات التي أقرت حقوق الملكية الفردية للأرض، وانفتح الطريق أمام نمو طبقة ملاك الأرض نمواً كبيراً، وسعت هذه الطبقة إلى أن يكون لها وزن مقابل السيطرة على الحكم، وقد شكل كبار ملاك الأرض من الأقباط جزءاً لا يتجزأ من هذه الطبقة. ويمكننا أن نستخلص من جدول أورده بعض الباحثين أنه في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت هناك 27 عائلة قبطية تتراوح ملكية كل منها بين ألفي فدان وثلاثين ألف فدان: من بينها عائلات غالي وسميكة ومكرم وعبد النور والمنقبادي ومقار وويصا وبقطر وعبيد واندراوس وبشارة وغيرهم.
ومنذ ذلك الوقت تعايش الأقباط مع المسلمين في مصر وأسهموا في بناء مجتمعها واقتصادها على مر العصور بما في ذلك بناء الدولة المصرية الحديثة في القرنين الأخيرين، ووصل هذا الاندماج إلى أقصاه في ما يسمى العصر الليبرالي الذي بدأ بثورة 1919 وانتهى بثورة 1952.
وفي ما يتعلق بالتيارات الفكرية التي أثرت في تكوين المثقفين والمتعلمين من الأقباط والمسلمين، خصوصاً في الصفوة، فقد تأثر المثقفون المصريون بأفكار عصر التنوير الفرنسي من ناحية وبالليبرالية الإنكليزية من ناحية أخرى، وتحت تأثير الحماسة التي فجرتها مكتشفات علم المصريات جرى صوغ عدد من المفاهيم والقضايا الرئيسية في الفكر المصري الحديث، وقام بهذه المهمة عدد من رواد «عصر النهضة»، نخص بالذكر اثنين منهم: رفاعة الطهطاوي وأحمد لطفي السيد.
ولا شك في أن مشاركة الأقباط في ثورة 1919 مثلت الدور الأهم في تأكيد مكانتهم وهويتهم في إطار حركة وطنية ترفع شعاري الاستقلال والدستور ودورهم في بناء الدولة الوطنية، حيث شملت مشاركتهم مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، وكانت هذه المشاركة استجابة موضوعية لمتطلبات هذه الثورة التي ارتفعت بقضية التكامل بين المسلمين والأقباط إلى مستوى لم تبلغه من قبل، ذلك أنه إضافة إلى المفاهيم التي طرحتها: «الشعب الواحد» و «الجامعة القومية» و «المواطنة»، فإن تجربة هذه الثورة ما زالت تشكل في التراث التاريخي المشترك أحد الأطر المرجعية الرئيسية التي تتم استعادتها كلما وقعت أزمة في العلاقة بين الأقباط والمسلمين.
النقطة الثانية تتعلق بمستوى مشاركة الأقباط في تكريس مفهوم الشعب الواحد، فعندما تشكلت اللجنة المكلفة إعداد دستور 1923 رفضت غالبية الأقباط أن يتضمن الدستور نصوصا تحتوي على ضمانات الأقليات الدينية بما يجعل هذه الأقليات موضوعاً لتشريع استثنائي، وتمثل هذا الرفض في صورة حركة جماهيرية واسعة في صفوف الأقباط، وعقدت الاجتماعات في الكنائس والجمعيات وكتبت الرسائل والمقالات، ونجحت الحركة في تحقيق أهدافها بمساندة وتوجيه من حزب الوفد وهو الحزب الذي تزعم الثورة.
من ناحية أخرى، فعندما رفض الأقباط أن يتضمن الدستور نصاً على تمثيل الأقليات تم إبطال مفعول إحدى الآليات التي طالما لجأت إليها الدول الإمبريالية لتمارس التدخل في شؤون الدول التي كانت تسعى إلى استكمال مقومات استقلالها السياسي.
النقطة الثالثة أن حزب الوفد تمكن من تكوين قياداته وقواعده على مبدأ المواطنة وحده وبغض النظر عن الدين، ووفقاً لهذا المبدأ كان للقيادات الوطنية القبطية وجود طبيعي وواضح في المستويات العليا والوسيطة للحزب، ففي تلك الحقبة تبوأ الأقباط المناصب السياسية كافة التي تبوأها المسلمون من نواب في البرلمان إلى رؤساء برلمان (مثل ويصا واصف) إلى وزراء ورؤساء وزراء مثل بطرس باشا غالي ويوسف باشا وهبة، وقد بدأت المشاركة الفعالة للأقباط في الحياة السياسية منذ مشاركتهم الكبيرة في ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول ضد الإنكليز والتي أسفرت عن نفي عدد من القيادات الوطنية المصرية بينهم عدد من الأقباط (مكرم عبيد وسينوت حنا). وبعد العودة تشكل حزب الوفد المصري وكان حزب الغالبية في معظم الوقت، ومن خلاله تمكن الأقباط من الوصول إلى البرلمان بعدد من النواب يزيد على نسبتهم العددية بين الشعب المصري. ففي الانتخابات التي أجريت في أعوام 1924، 1925، 1936، 1943، كانت نسبة تمثيل الأقباط تتراوح بين 8 في المئة و10.5 في المئة من مجموع أعضاء مجلس النواب. ويؤكد المستشار طارق البشري في مؤلفه المهم «الأقباط والمسلمون في إطار الجماعة الوطنية» أن التذبذب في عدد الأقباط انخفاضاً وصعوداً إنما كان مرتبطاً بالحركة السياسية الديموقراطية وما يعتريها من تصاعد وانخفاض. كذلك في مجلس الشيوخ كانت نسبتهم تتراوح بين 8.5 في المئة إلى 18.5 في المئة. وهكذا يتضح حجم التمثيل العالي للأقباط سواء في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ بنسب تجاوزت نسبتهم في المجتمع المصري.
أما عن المناصب الوزارية التي تولاها الأقباط في ذلك العهد، فهي وفقاً للباحث سليمان شفيق في كتابه «الأقباط بين الحرمان الكنسي والوطني»، رئاسة الوزارة مرتين، ووزارة الأشغال والمواصلات ست مرات، والزراعة ثماني مرات، والخارجية لواصف غالي ونخلة المطيعي وصليب سامي، والحربية مرة واحدة، والمال 4 مرات (مكرم عبيد)، والتجارة والصناعة سبع مرات، والتموين مرتين والصحة مرتين. ومن ضمن الأسماء البارزة في هذه الحقبة فخري بك عبد النور وفوزي باشا المطيعي وفهمي بك ويصا وجورج باشا خياط وتوفيق دوس وراغب اسكندر... الخ.
وبعد دخول أقباط مصر من باب «الوفد» بالدرجة الأولى إلى المشاركة السياسية في تجربة الدولة الجديدة تحت مفهوم المواطنة (بدلاً من مفهوم «الرعية») فقد كان يمكن أن تنتكس التجربة كلها لأسباب عدة، منها أن أحزاب الأقلية لم تجد في عدائها للوفد دعوى تقدم بها نفسها إلى الشارع المصري غير دعوى الوجود القبطي الظاهر في قيادة الوفد، وكذلك لم يعد أمام أحزاب الأقلية التي تراجعت عن دعوى الديموقراطية إلا أن تشتد في تظاهرها بادعاء الغيرة على الإسلام مستغلة ظهور الأقباط في الوفد ومركزة على هذا الظهور. وكانت تلك مأساة كبرى لأن بعضاً من أكثر العناصر في مصر استنارة لم يجد سبيلاً إلى مقاومة «الوفد» غير تحريض إسلامي يستثير الشكوك ضد مسيحية قبطية وجدت المكان الأكثر ملاءمة لها في حزب الأغلبية.
وعندما بدأ تراجع «الوفد»، حتى في حياة سعد زغلول بعد قبوله الإنذار البريطاني الذي تلقته مصر عقب اغتيال السير لي ستاك قائد القوات البريطانية في السودان، فإن قبول ذلك الإنذار أحدث آثاره على رغم أن سعد زغلول ترك غيره ينفذ مطالب هذا الإنذار، وإن برضاه وتحت حمايته. ويقول محمد حسنين هيكل: «وفي هذه اللحظة كان يمكن أن يكون ضعف الوفد حدثاً يؤثر على الوعاء الأكبر للوطنية المصرية الجامعة، لولا بروز شخصية مكرم عبيد بدوره الكبير في الوفد وفي الحياة السياسية بعموم». وفي رأيه أن مكرم عبيد «أخذ أقل مما يستحق في الاعتراف بدوره في تمتين رابطة الوطنية المصرية (وفي صميمها فكرة «المواطنة») من حيث انه المسيحي القبطي المتمثل لروح الحضارة العربية (وهي إسلامية) الذي استطاع لسنوات طويلة من أواخر العشرينات وطوال الثلاثينات وحتى بداية الأربعينات أن يجعل من نفسه ومن دوره رمزاً بالغ الأهمية في الحياة السياسية المصرية.
ويقول هيكل: «كان مصطفى النحاس هو زعيم الوفد لكن قيادة الوفد الفعلية كانت لمكرم عبيد». كان وجود مكرم عبيد على قمة الوفد في حد ذاته يغني عن اجتهادات كثيرة تثير بالطبيعة أسباباً للاختلاف، فهو بذاته روح الوفد السياسي ومدبر شؤونه الذكي وصوته البليغ الناطق باستيعاب كامل للحضارة المصرية والعربية (ومحتواها الإسلامي) وهو محرك وجود «الوفد» وسط مواقع التأثير في الحياة العامة وأهمها تلك الأيام حركة النقابات المهنية، ثم هو المثقف الواعي اجتماعياً الذي استطاع أن يقول في آخر موازنة قدمها بوصفه وزير المال: «إننا حررنا المواطن المصري من استغلال الأجانب وآن الأوان أن نحرره من الاستغلال المصري». وكان وراء إنشاء مكتب حكومي للعمل في الثلاثينات لإنصاف العمال والسعي إلى تشغيل العاطلين منهم وفي وقت لم تكن الحركة النقابية المصرية قد صلب عودها بعد وكانت قياداتها لا تزال في أيدي عناصر أجنبية إيطالية ويونانية، وقد تحول مكتب العمل هذا في ما بعد إلى مصلحة العمل في وزارة جديدة جهد مكرم عبيد أيضاً لإنشائها وهي وزارة الشؤون الاجتماعية التي ظهرت في أوائل الأربعينات. وكثيراً ما كانت مقترحات مكرم عبيد للتمصير وإنصاف الفقراء تصطدم، ليس فقط بالنفوذ الأجنبي ولكن أيضاً بنفوذ أصحاب المصالح الكبرى من المصريين أنفسهم، بمن في ذلك بعض عناصر حزب الوفد الذي انتمى إليه، وكان لبعض هذه المقترحات أن ينتظر إلى قيام ثورة تموز (يوليو) 1952 لكي تنفذها.
وفي عام 1938 رفض الأقباط مرة أخرى أن يدخلوا في دائرة الأقليات التي تطلب الحماية من دولة أجنبية، وعبر عن ذلك وفد مصر في «عصبة الأمم» وتمثل إذ ذاك بالوزيرين القبطيين مكرم عبيد وواصف بطرس غالي – معارضاً أن يقترن دخول مصر بين أعضاء هذه المنظمة الدولية بتعهد من الحكومة المصرية يكفل حماية الأقليات تعهداً قد تحاسب عليه الحكومة أمام العصبة، وفي حرب 1948 سقط من الأقباط شهداء في فلسطين من جنود الجيش المصري، كما شارك شباب الأقباط في هبات الثلاثينات الوطنية وشاركوا في الأربعينات في صفوف الحركة العامة المناهضة للاستعمار.
رحب الأقباط بقيام ثورة تموز (يوليو) 1952 ولكن مع مرور الأيام غلب عليهم التوجس، خصوصاً حول ما يتعلق بغياب مشاركتهم في مجلس قيادة الثورة، وهو إذ ذاك أعلى مستويات السلطة، فلم يكن فيه ضابط قبطي واحد. إضافة إلى أن بعض قطاعات الفئات الوسطى القبطية استمرت تربطها روابط المصلحة أو الفكر أو كليهما بالنظام القديم بأوضاعه الاقتصادية وبأحزابه وبالطبقة العليا المسيطرة فيه.
ومع التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي أحدثتها الثورة في الهيكل الاجتماعي تناقص الشعور القبطي تجاهها، فبعد تحديد الملكية الزراعية وتمصير المصالح الأجنبية وتأميم الرأسمالية المصرية والبدء في إقامة القطاع العام ثم ما سمي الإجراءات الاشتراكية، برز على السطح شعور الأغلبية القبطية بالمساواة في فرص التعليم والتوظيف. وكان من الممكن أن تؤدي مجانية التعليم إلى تقوية الروابط الوطنية المدنية غير أن الذي حدث عكس ذلك، ففي صراع عبد الناصر مع «الإخوان المسلمين» أصدر الأول قرارين مهمين:
1- جعل الدين مادة أساسية في مراحل التعليم ما قبل الجامعي في أيلول (سبتمبر) 1957 أي مادة نجاح ورسوب وليس كما طبقها الوفد في 1937 كنوع من تنمية الوعي الديني، وعلى رغم أن هذا القرار قد يكون عادياً ومشروعاً باعتباره يؤدي إلى دعم الجوانب الروحية لدى الطلاب، إلا أن ذلك كان يتحقق فقط في ظل وجود كوادر مدربة جيداً لهذه المهمة، ولكن قام بتدريس الدين أشخاص لا تتوافر فيهم المقومات الكافية من حيث الفهم الصحيح لجوهره، ولذلك كانت نتيجة هذا القرار تعميق أوجه التمايز بين أبناء الأمة المصرية. تزامن ذلك مع تقليص النفوذ السياسي والاقتصادي للأقباط بسبب إجراءات التأميم التي طاولت الكثيرين منهم، فضلاً عن اعتماد النظام على أهل الثقة في تولي المناصب الرئيسية، ما أدى إلى هجرة عدد كبير منهم إلى الخارج وعزوف الموجودين في الداخل.
2- إعادة تنظيم جامعة الأزهر، فصارت مقصورة على الطلاب المسلمين في فروع العلم المختلفة. وإن كانت مادة الدين مزقت بين أبناء الشعب الواحد في الفصل الدراسي فإن جامعة الأزهر عمقت ذلك الانفصال وتلك التفرقة الطائفية. وأدى القراران إلى تديين المسألة التعليمية واستغلال ذلك في إطار الطائفية السياسية التي حدثت في ما بعد.
وإذا صح أنه كانت هناك عوامل إضافية أسهمت في بروز ثغرات بين قطاعات من الأقباط وثورة تموز (يوليو)، فقد نجح النظام الجديد على رغم ذلك في تجاوز عدد من هذه الثغرات عبر إجراءات تم تنفيذها في الخمسينات والستينات. فعلى المستوى السياسي تم استكمال مقومات الاستقلال والسيادة الوطنية، ثم عزل النفوذ البريطاني الذي كان مصدراً آخر رئيسياً من مصادر التمييز ضد الأقباط. وعلى المستوى الاجتماعي اتخذ نظام يوليو عدداً من الإجراءات الإصلاحية والتقدمية في اتجاه ترسيخ مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين على اختلاف عقائدهم الدينية.
وفي مجال الثقافة أتيح للعديد من المثقفين الأقباط من أجيال مختلفة البروز ومنهم ألفريد فرج وفيليب جلاب وموسى صبري وسعيد سنبل وغالي شكري وشكري عياد وحسني جندي ولويس عوض ويونان لبيب رزق وراغب عياد وأبوسيف يوسف وميلاد حنا ورشدي سعيد... الخ.
وفي إطار توسيع دائرة ممارسة العقيدة الدينية تجاوز عبد الناصر القيود التي كان يفرضها «الخط الهمايوني» على بناء الكنائس فصرح للكنيسة القبطية ببناء 25 كنيسة سنوياً وأعفى البطريركية من تصريح وزارة الداخلية وحضر بنفسه حفلة بناء الكاتدرائية. كذلك قامت علاقة من نوع خاص بين جمال عبد الناصر وكيرلس السادس «بطريرك الأقباط»، وفي هذا الصدد يقول هيكل: «ربما أن الحقائق كانت تتطلب ما هو أبقى وأعمق من علاقة وثيقة بين بطريرك ورئيس، ولكن لسوء الحظ أن معارك 23 تموز (يوليو) المستمرة جعلتها تترك وراءها فراغات مفتوحة».
عامل آخر ظهر غداة قيام النظام الجديد ويتمثل في أن مشاركة ضباط ينتمون إلى جماعة «الإخوان المسلمين» في السلطة، واستثناء تنظيمهم من قانون حل الأحزاب، ترك انطباعاً في أوساط قبطية بأن النظام الجديد يتحالف مع «الإخوان»، أو يحكم باسمهم. أما بالنسبة إلى التمثيل القبطي، فسنجد أن أهل الثقة من الأقباط كانوا غائبين تقريباً عن الجهاز التنفيذي الذي لم يضم سوى نسبة تقل عن 1 في المئة فيه، أما الوزارات التي تولاها أقباط من 1952 – 1970 فكانت هامشية (وزارة التموين مثلاً)، ولم يتول قبطي وزارة سيادية طوال هذه الفترة، وكان اختيار الوزراء الأقباط يتم وفق رضا تقارير أجهزة الأمن.
ولوحظ أنه عندما تشكلت لجنة لوضع دستور 1953 كان فيها ستة من الأقباط من بين خمسين عضواً، ولكن المشكلة ظهرت على مستوى المجلس التشريعي (مجلس الأمة)، فقد لوحظ أنه مع غياب الأحزاب السياسية ابتداء من كانون الثاني (يناير) 1953 بات من الصعب على أي قبطي يرشح نفسه للانتخابات العامة أن ينجح. ونتيجة لذلك لم ينجح في انتخابات مجلس الأمة في 1957 سوى قبطي واحد عن دائرة شبرا (شمال القاهرة) هو فايق فريد (واعتقل عام 1958 في حملة الثورة على الشيوعيين)، وعالج عبد الناصر الأمر بمبدأ دستوري جديد هو «التعيين» وأدخل تلك المادة على الدستور الموقت عام 1956 وهي مادة تسمح له بتعيين عشرة أعضاء في مجلس الأمة، وهو الأمر الذي كان يقول ميلاد حنا إنه أدى فعلاً إلى استبعاد الأقباط تدريجاً من المجلس النيابي، وبالتالي من العمل السياسي. ففي برلمان 1964 انتخب نائب واحد وتم تعيين ثمانية، وفي برلمان 1969 تم انتخاب نائبين وتعيين سبعة.
ثمة إشكاليات طرحت من منطلقات مختلفة حول علاقة نظام تموز (يوليو) بالأقباط، وذلك من زاوية مدى نجاحه في تحقيق الاندماج الفعلي بين مكوني الشعب. يذكر المستشار طارق البشري «أن نظام تموز اعتمد في ما بعد على الإدارة كجهاز وحيد يستند إليه في نشاطه السياسي ولم ينجح النظام في تكوين جماهيري مستقل عن جهاز الإدارة، وكان جهاز الإدارة أكثر مؤسسات المجتمع المصري التي تظهر في تكوينها أو في مسلكها ظواهر للتفرقة بين المسلمين والأقباط لأسباب تاريخيه ترجع إلى طابعه المحافظ وإلى ضعف أثر حزب الوفد فيه، كذلك فإن استناد نظام تموز إلى هذا الجهاز الأوحد في النشاط السياسي كان من شأنه الإبقاء على هذه الظواهر».
ومن الباحثين من ذهب إلى أنه مع الإقرار بأن نظام تموز وإن كان قد دفع التطور التاريخي في مصر إلى تكامل الاندماج القومي بين العناصر الدينية، فإنه لم يتخذ من السياسات العملية ما يحقق الاندماج فعلاً. وعندهم أن هذا يرجع إلى العديد من العوامل، منها أن تنظيم «الضباط الأحرار» لم ينجح في إقامة هيكل جامع، كما كان الشأن في الوفد، لإزالة أي أثر للتفرقة بين المسلمين والأقباط، خصوصاً في الرتب العليا، يضاف إلى ما تقدم أنه عندما اتخذت المعارضة المحافظة للإصلاحات التي قام بها نظام تموز طابعاً دينياً إسلامياً، خصوصاً في بداية حركة التأميم، لجأ النظام تحت وطأة صراعه الحاد مع «الإخوان المسلمين» إلى تزكية بعض الاتجاهات الدينية الموالية له بحكم انتمائها إلى جهاز الدولة أو ارتباطها به بشكل ما. وفي رأينا أن هذه الملاحظات مهمة لأنها تدخل في صميم إشكالية الدور السياسي للأقباط، وذلك من حيث إنها تطرح في التحليل الأخير إشكالية الديموقراطية في نظام تموز، فالثورة عندما لم تؤسس مؤسسات قادرة على إطلاق حركة جماهيرية سياسية ومنتظمة، ومؤهلة بالتالي للقيام بمبادرات تحمي منجزاتها وتطورها، لم تفتح المجال أمام ظهور معارضة محافظة ذات طابع ديني إسلامي فحسب، وإنما عملت في الوقت نفسه ومن الناحية الموضوعية على تحجيم، وبالتالي إضعاف، مقاومة الأقباط الموالين للثورة لحركة القوى المحافظة في صفوف المؤسسة الدينية المسيحية.
أما بالنسبة الى العروبة ففي إطار المشروع الذي طرحه النظام لتحرير البلاد وإعادة بنائها، فقد شارك الأقباط في المعارك التي فرضها تنفيذ المشروع، وهو الأمر الذي بات محسوساً إذ ذاك أن أجيالاً متعاقبة، وخصوصاً من الشباب، كان قد جذبها نهج التصلب والصمود في مناهضة الاستعمار القديم الجديد وفي مواجهة إسرائيل. وشاركت في حرب السويس وحرب اليمن وحرب 1967 وحرب الاستنزاف ثم حرب 1973. وفي 1956 تم تكريم ضابط قبطي هو اللواء رؤوف محفوظ لبطولته الشخصية في معركة شرم الشيخ في حرب السويس. وفي صفوف القوات المسلحة التي أعيد بناؤها وخاضت حرب 1973 كان قائد الجيش الثاني ضابطاً قبطياً هو اللواء فؤاد عزيز، وفي هذا انفتحت الطريق أمام قطاعات من الأقباط للاقتراب من دائرة الانتماء الأوسع للمصريين وهي الدائرة العربية، ومن ثم نتفق مع الرأي القائل إنه نما في صفوف المثقفين الأقباط اتجاه تبني المفهوم الوظيفي للوحدة العربية، ومن الصحيح أنه كان بين المفكرين وبعض القيادات الدينية من تحفظ على مفاهيم الوحدة العربية، على أساس أنها غير واقعية، لكن هذا لا يحجب واقع أنه منذ أواخر الخمسينات وعلى امتداد الستينات وفي ما بعد أيضاً، استقر بثبات الاتجاه إلى تبني وتأصيل مفهوم العروبة في صفوف مثقفين وكتاب وعلماء من الأقباط. ولا تفوتنا الإشارة إلى أنه برزت في الكنيسة المصرية مواقف تتكامل وتتوحد مع الموقف المناهض للعدوان الإسرائيلي وللصهيونية.
* عضو مجلس الشعب المصري سابقاً، أستاذة علوم سياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة
|