الثلاثاء, 18 يناير 2011 مصطفى الفقي *
هل يعيش العرب خارج دائرة العصر؟! وهل فقدنا الإحساس بالزمن؟! وهل أدى تراكم الفرص الضائعة إلى حالة من البلادة نتيجة شيوع مناخ الإحباط مع الإحساس بأنه لا جدوى من أي شيء جديد؟! هذه تساؤلات ألحت على ذهني وأنا أتابع مشاهد من فيلم تسجيلي عن حياة المناضل الراحل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وذلك بدعوة من رجل أعمال له توجهات قومية ووطنية هو المهندس نجيب ساويرس، وهو الفيلم الذي أشرفت عليه الإعلامية اللبنانية المرموقة جيزيل خوري. لقد شعرت من المحطات المختلفة في حياة ذلك الزعيم الفلسطيني الراحل وأنا أجلس في دار «الأوبرا المصرية» أتابع شريط حياته أن كمّ الفرص الضائعة يبدو واضحاً وأن هناك تجسيداً حقيقياً للأسلوب العربي في التعامل مع عنصر الوقت واقتناص الفرصة، ولا أظن أن اللوم كله يقع على كاهل المناضل الفلسطيني الراحل، ولعل ما ألهمني به فيلم «أبو عمار» منذ دراسته في القاهرة، وعمله في الكويت، ثم انخراطه في قيادة المقاومة الفلسطينية و «حركة التحرير» وميلاد منظمة «فتح» عندما انطلقت أول رصاصة في حركة «فتح» في أول كانون الثاني (يناير) 1965، ولقد خرجت من ذلك الفيلم بعرفانٍ لمن موّل إنتاجه ومن قامت على إخراجه، مُورِداً الملاحظات التالية حول العقل العربي عموماً وطريقة مواجهته للأحداث خصوصاً مع تعامله مع عنصر الزمن في مراحله المختلفة:
أولاً: إن الذين قالوا إن «العرب ظاهرة صوتية» لم يتجنوا كثيراً على الواقع على رغم أن التعبير مؤلم، لأننا أمة تخاطب نفسها حيث نقول ما لا نفعل ونفعل ما لا نقول كما أننا مغرمون بالشعارات من دون الأفكار، بالتنظير من دون التحليل، بالشكل من دون المضمون. ولعل دراستنا للنماذج المختلفة من القضايا العربية المتعددة وفي مقدمها القضية المركزية الأولى وأعني بها القضية الفلسطينية تؤكد ما ذهبنا إليه لأنها تركز في شكل واضح على أسلوب التفكير العربي وخطاياه المتراكمة.
ثانياً: إننا نترك الفرص تفلت من أيدينا ثم نبكي على «اللبن المسكوب» بعد ضياع الأوان، فإذا طالبنا بما كان معروضاً قيل لنا إن الحصان الأسود قد رحل من السباق! أي أن العرض لم يعد قائماً وأن الفرصة المحتملة لم يعد لها وجود، ولا يعني ذلك أبداً أن الجانب الآخر كان يتصف بحسن النية فذلك أبعد الأمور عنه، ولكن واقع الأمر هو أن الخصم يستطيع أن يروج من الدعايات والأكاذيب ما يضيف إلى الفرص الضائعة تلك الدعايات الكاذبة من الجانب الآخر فنخسر مرتين، مرة بفرصة أفلتت وأخرى بدعاية أساءت.
ثالثاً: إننا نزعم أن العيب كله فينا وأن الخطأ برمته يقع علينا فالأطراف الأخرى ليست حسنة النية دائماً بل إنها تحمل رصيداً كبيراً من العداء الدفين والحقد الواضح على العرب والعروبة مع أطماع كامنة في الأرض والمياه والرغبة الدائمة في فرض سلام الأمر الواقع مع اغتصاب الحقوق وإنكار الحقائق، لذلك فإننا إذا كنا نوجه نقداً ذاتياً لأنفسنا إلا أننا ندرك أن جزءاً كبيراً من إشكالية الفهم المتبادل بيننا وبين العالم لا يقع كله علينا فنحن نعيش عصر المؤامرات الخفية والصفقات المستترة والأحداث المصطنعة.
رابعاً: إن العقل العربي يبدو شارداً عن روح العصر، مغرداً خارج السرب، يتحدث إلى نفسه ويرفع لافتات صاخبة من أجل الاستهلاك القومي والانشغال القطري ولا يتقدم لاقتحام المشكلات بجسارة ووضوح ويقنع في الغالب بدور المتلقي ويعيش على ردود الأفعال ولا يقتحم القضايا بل يلتف حول المشكلة من دون مواجهتها ويندب حظه صباح مساء ولا مانع من جرعة كبيرة من جلد الذات بما يحمله ذلك من محاولة التكفير عن الذنب وغسل الأيدي من دماء الحقيقة التي اغتالتها الأحلام والأوهام والأكاذيب.
خامساً: إنني أتساءل كثيراً – ومثلي ملايين آخرون – عن السبب وراء تراجع دورنا وتهميش إرادتنا؟ وأجد أن السبب يكون دائماً هو أننا قد اكتفينا بأقل القليل من إنجازات العصر وروحه الباهرة وأضوائه الخاطفة وأصبحنا نعيش عالة على فكر غيرنا واكتشافاته واختراعاته وأضحى إسهامنا محدوداً للغاية، إذ يكفي أن نتساءل كم عنواناً ننتج للنشر كل عام على امتداد أقطار الأمة العربية؟ سوف نكتشف أن الأرقام متواضعة وأن دورنا محدود للغاية وهزيل بشكل ملحوظ.
سادساً: إننا يجب أن نعترف أن الصورة ليست قاتمة بالكامل بل إن هناك ومضات ضوء تطل من حين لآخر بين عاصمة عربية وأخرى فتلك تحصد جوائز «نوبل» والأخرى تستضيف «المونديال» والثالثة تقف بين أكبر القوى الاقتصادية في العالم، ولكن على الجانب المقابل هناك دولة تنقسم على نفسها في حالة طلاق سياسي حزين بحيث تفقد الأمة العربية جزءاً من بوابتها الجنوبية مع القارة الأفريقية. إننا أمام مشهد متضارب فيه الصعود والهبوط، فيه النجاحات والإخفاقات، ولكن الصورة في مجملها مهتزة بل ومرتعشة أحياناً.
سابعاً: إنني لست من هواة جلد الذات والاستغراق في النقد السلبي بل إنني أؤمن بأنه خير لنا أن نشعل شمعة بدلاً من أن نلعن الظلام، كما أنني مؤمن أيضاً -وفي الوقت ذاته- أنه خير لي أن تعلمني الصيد بدلاً من أن تعطيني سمكة كما يقول الصينيون، لذلك فإنني أتطلع إلى المستقبل بأمل شديد وأراه يبدو في الأفق البعيد أفضل بكثير مما نحن فيه.
ثامناً: لا يختلف عربيان في أن الإصلاح السياسي والأخذ بالأساليب الديموقراطية الحديثة واحترام حقوق الإنسان هي كلها مفردات سوف تضعنا على الطريق الصحيح في عالم يموج بالاضطرابات وتتصارع فيه التغييرات وتتوالى الاكتشافات الحديثة والأفكار المبتكرة. ولماذا نذهب بعيداً؟ ألا نتذكر أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 وما تمخض عنها من نتائج غيرت شكل العالم وجعلتنا أمام وضع مختلف تماماً بل وأغرت الآخرين بالأطماع فينا وضربت حركة المقاومة الشعبية والكفاح المسلح في مقتل وخلطتهما خلطاً مريباً بالإرهاب الدولي؟!
تاسعاً: هل يتذكر القارئ وثائق «ويكيليكس» وما تعنيه من رسائل متعمدة للقوى والدول المختلفة وكأن هناك من يقول: نحن نعلن ما نريد ونفعل ما نشاء والعالم الصغير يدور في فلكنا ولا أحد يخرج عن طوعنا. إنها إشارات لا تخطئها العين بأن عالماً جديداً يطل علينا كل يوم بجديد وهي أيضاً قصة كاشفة لما بلغه العصر من تطور يؤكد أنه لم يعد في عالمنا سر يدوم حتى ولو تردد داخل الحجرات المغلقة.
عاشراً: إن الواقعية السياسية التي نتحدث عنها والتعامل مع العالم حولنا بكل ما له وما عليه هي دعوة صادقة للخروج من شرنقة الماضي واقتحام الواقع والحصول منه على أفضل النتائج فالشعوب لا تقتات على الشعارات والأمم لا تعيش بالأوهام كما أن الإنسان في النهاية هو صانع قدره ومصيره.
تلك ملاحظات أوردناها خرجت بها من لحظات تأمل أثناء مشاهدة فيلم عن حياة الرئيس الراحل عرفات بما فيها من انتصار وانكسار والتي أدركت منها أننا نستسلم لمشاعرنا أكثر من استسلامنا لعقولنا وأننا نمضي وراء رغباتنا أكثر مما نمضي وراء قدراتنا، وهي صيحة نحاول بها أن نستدرك الأمور وأن نتلمس الحقائق وأن نعرف الدنيا من حولنا وألا نعيش مزدوجي الشخصية نقول في العلن ما لا نؤمن به في السر، ونترك الفرص تفلت من أيدينا ولا نخاطب الآخر باللغة المطلوبة ثم نتباكى في النهاية على الفرص الضائعة والقرارات الهاربة والأفكار التائهة. ولا يعني ذلك أننا المخطئون دائماً في عالم كله ملائكة أو المذنبون في دنيا الفضيلة! فالخصم غادر والعدو لا نظير له في عدوانيته وعنصريته وجرائمه.
* كاتب مصري
|