القاهرة - أمينة خيري بينما يتنامى معتنق المؤامرة ومعتقد الدسيسة ومنهج الخديعة لتتملك قلوب الملايين وعقولهم، تتولد جهود متفرقة لإعادة قانون التظاهر إلى طاولة التناحر وملفات الاختفاء وقضايا الاعتقال واتهامات الانتهاك إلى قائمة الاهتمام. إلا أن واقع الحال الذي يرقى إلى درجة المحال وأجواء «الحرب العالمية الثالثة» وإنهاك الاستحقاقات الانتخابية والضغوطات الإقليمية يدفع بكفة المؤامرة إلى الترجيح.
ترجّح قطاعات عريضة من المصريين، البسطاء منهم والمثقفون، أن تكون مؤامرة كبرى تُحدق بالمنطقة ومصر تحديداً، باعتبارها «رمانة ميزان» و «قلب العالم العربي» و «مخ الأمة الإسلامية». وهذا الترجيح - الذي ولد شعبياً على الأثير الفضائي قبل نحو خمس سنوات - واجه مقاومة شعبية في بداياته، ثم ما لبث أن حاز قبولاً متزايداً ونمواً متصاعداً، حتى بات رجل الشارع يعتنقه ويروّج له ويجود في تفسيراته ويعمم اجتهاداته.
اجتهاد المصريين للتعايش مع الواقع الاقتصادي الصعب واضح بالعين المجردة. فبعدما عادوا أدراجهم سالمين غير غانمين إلى عوالم كراهية السياسة وبلادة المشاركة وعموم الموافقة على الوضع القائم طالما تُبذَل جهود لتطويق الغلاء وشعور يحكم بأن القيادة «وطنية» على رغم الأخطاء وصادقة رغم الهفوات، وقعت الملايين أسيرة نظرية المؤامرة التي وحّدت صفوفاً وأيقظت ضمائر واستنفرت همماً. همم المواطنة المصرية العادية التي وهبت وقتها من دون مقابل لتنظيم حملة أحد مرشحي الدوائر الذي يجهّز نفسه لخوض انتخابات الإعادة، نموذج يلخّص الفكر السائد في مصر هذه الأيام. فالسبب الوحيد الذي دفعها إلى عملها التطوعي هو أن المرشح المذكور - والذي لا تربطه بها أي علاقة سابقة - ذو خلفية سيادية معلوماتية، وهي بقناعاتها التآمرية الواضحة على يقين بأن نجدة مصر تقبع في أيادي «أبنائها الشرفاء» الفاهمين السياسات الدولية الكاشفين التآمرات الإقليمية القادرين على دحر المتآمرين في جحورهم الأممية.
أممية المؤامرات ألمّت بكل القطاعات. فمسؤول إشعال النرجيلة وضبط التعميرة في المقهى المزدحم برواده ضلع في حديث سياسي هادر دار حول ظاهرة الطائرات الروسية المتساقطة والتواؤمات «الانغلو - أميركية» المتواطئة، والتقاربات الفرنسية - الروسية المتقاترة، والعمليات الإرهابية المتربصة، ثم أعلنها قوية صريحة: «رغم أنني طافح الكوتة (دلالة على العمل الصعب والفقر الأصعب) إلا أن بلادنا تتعرض لمؤامرة كبرى وعلينا أن نؤجل الشكوى حتى ننجو بها وبأنفسنا».
نجاة البلاد والعباد لدى قطاع عريض من المصريين لا تمر عبر نكء جراح قانون التظاهر، أو إعادة إحياء التظاهرات الفئوية، أو قرع أجراس الوقفات الاحتجاجية، أو استدعاء روح «يناير» الثورية، أو تأليب أوجاع قرى الصعيد الشتوية، أو استرجاع مهاترات الإسكندرية المائية، أو حتى المجاهرة بانتقادات هنا أو هناك وذلك حباً للوطن وعشقاً لترابه. العجيب والغريب أن هذه المرة حب الوطن وعشق ترابه ينبعان من القواعد الشعبية نفسها، وليس فقط عبر الأجهزة الرسمية والأبواق الإعلامية. أصوات عدة لكن خافتة يحاول أصحابها إعادة حركات الاحتجاج وتحركات الاحتكاك إلى الصادرة. لكن المثير أنها لا تلقى قبولاً واسعاً من الفئات المستهدفة، أي قطاعات العمال المحتجين أنفسهم، وردود فعل الأجهزة الشرطية التي لم تُستنفر أو تحذر أو تتوعد. وتكمن الإثارة في التعليقات الشعبية والتحليلات العادية الصادرة من مواطنين عاديين وكذلك جانب من التدوينات العنكبوتية التي تُكتب تعليقاً على دعوات الاحتجاج.
«احتجاج المئات من عمال طلخا»، «تظاهر اعتصام مفتوح لعمال الأوقاف»، «عمال الغزل والنسيج يمتنعون عن العمل»، «عمال السياحة يخططون لقطع الطريق»، «السبت وقفة احتجاجية لعمال النقل العام»، «الأحد تظاهرة هادرة لعمال النظافة»، «الإثنين اعتصامات مستمرة لعمال الزراعة»، «الثلثاء تلويح بالعصيان لعمال المصانع». وتتوالى الأخبار العنكبوتية لكن أرض الواقع لم يسمع عنها شيئاً. فلا عمال طلخا جاؤوا ولا السياحة قطعوا ولا أيام السبت أو الأحد أو الإثنين أو حتى الثلثاء شهدت الحراك الاحتجاجي المذكور.
وعلى رغم المشاعر الاحتجاجية التي تجتاح الغالبية لأسباب عدة تتراوح بين مصاعب معيشية وفوضى شارعية وغمامة سياسية وضبابية إقليمية، إلا أن هذه المرة تتمكن نظرية المؤامرة بدرجاتها من الملايين، وتتحكم مصالح الوطن العليا والدنيا في الفكر الشعبي، وتميل الغالبية إلى رفع شعار «عايزين البلد تعدّي» اضطراراً أو اقتناعاً، أو حتى على مضض ثوري أو وسواس تآمري أو رضى وطني، وذلك قبل أيام من انتهاء تشكّل البرلمان الجديد. |