الأحد, 16 يناير 2011 خالد الحروب *
ما يحدث الآن في تونس والجزائر، يمكن أن يحدث اليوم أو غداً في أي بلد عربي أو غير عربي تتفاقم فيه ظروف الانسداد السياسي إلى درجة الاحتقان الكامل. ليس هناك حاجة لاجتراح تفكير بارع لفهم أسباب الانتفاضة الشعبية هناك، واستعداد الناس للتضحية والموت في سبيل تغيير أوضاع يبدو أنه ما عاد بإمكان الغالبية تحملها. كما ليس هناك حاجة لتفكير بارع آخر لفهم أسباب دفاع النخب الحاكمة بشراسة عن نفسها ومواقعها، فالتمسك بالسلطة يكاد يكون الإغراء الأخطر في حياة البشر مذ وجدوا على هذه الأرض. لكن المحيّر هو إدارة هذه النخب ظهرها في شكل كامل لاستيعاب ما هي بداهات سياسية لا تني تجارب الشعوب تؤكدها حالة إثر أخرى. واحدة من أهم البداهات الألفبائية، سياسياً وفيزيائياً، تقول إن الضغط يولد الانفجار، وانه من دون إنهاء المسببات الحقيقية للضغط فإن الانفجارات التي تندلع تُدخل الشعوب والسلطات في أنفاق دموية مجهولة النهايات.
يمكن بالطبع تحليل خلفيات عدة وظواهر ومسببات متشعبة تقف وراء الغليان الراهن في تونس، وكل ذلك يفيد في إجلاء الصورة وتعميق فهمها. بيد أن كل ما يمكن أن يُسرد ويُشار إليه بالتحليل يعود جذره ومن دون أدنى شك إلى الانسداد السياسي والاستبداد المُطبق خلال ما يقارب ربع قرن. لا يهم الشكل التجميلي للبنية السياسية التسلطية وإن كانت ترتدي ثوباً حداثياً علمانياً، أو دينياً إسلامياً، فما عاد ذلك ينطلي على الوعي العام الذي راقب ارتداء كل الأثواب وكل المساحيق. الذي يهم هو وجود أو غياب الجوهر التسلطي، فهذا لا غيره هو ما يقلل أو يفاقم من احتمالات الانفجار. قد تنجح آليات الاستبداد في إطالة أمد حياته بعض الوقت، لكن النهاية واحدة وصارت معروفة في كل الحالات. هذا ما كان في الماضي البعيد والقريب، وهذا ما رأيناه يتكرر بانتظام مُدهش في تاريخ القرن العشرين. ولسوف يتكرر ذلك أكثر وأوضح في القرن الحالي ذلك أن مجتمعات عالم اليوم المتعولم ترابطت وتداخلت معارفها وعلائقها على نحو فريد، ثم انكشفت نجاحاتها وإخفاقاتها عبر الإعلام العابر للحدود، التلفزيوني والإنترنتي، وغدت عصية على أدوات الضبط والرقابة التقليدية. وباختصار شديد لم يعد هناك من يجادل في كنه المآلات النهائية والمتوقعة للاستبداد والمدعومة بشواهد تاريخية وحاضرة لا تحصى.
الدرس الأول والأهم من تونس هو أن الاستقرار الظاهري المبني على انسداد سياسي وتسلط عميق ينتهي إلى تصدع كبير لا يمكن احتواؤه. والسبب في ذلك أن الاستقرار الظاهري يشتغل عموماً على إنتاج الشيء وضده في الوقت ذاته. فعلى المدى القصير ينجح بالفعل في تحقيق وتمرير الصورة المستقرة عن البلد ويروجها داخلياً وخارجياً، بخاصة إن تواءمت سياساته الخارجية مع السياسات الغربية التي سرعان ما تتواطأ بدورها مع أنماط الاستقرار الظاهري المتحالفة معها. أما على المدى المتوسط والطويل فإن الاستقرار الظاهري يشتغل، وفي الآن نفسه، على مراكمة الإحباطات والغضب تحت السطح عوضاً عن معالجتها وتفريغها فوقه وتقديم الحلول لمسبباتها أولاً بأول. وهكذا تصبح الصورة الإجمالية خادعة وخطيرة: استقرار بائن للعيان شواهده كثيرة، لكنه عملياً يقوم على أرضية هشة تغلي البراكين تحتها.
الدرس الثاني من تونس يقول إن توظيف الحداثة والعلمانية بهدف إطالة أمد التسيس المُحبط والتسلطي لا يمكن أن يستمر طويلاً. ينجح هذا التوظيف بقوة على خلفية التخوف الواسع النطاق، والمُبرر معظمه، من البديل للأنظمة القائمة وهو الحركات الإسلامية الأصولية. ويصبح الخيار المطروح على الشعوب والأطراف المختلفة محصوراً بين أنظمة علمانية فاسدة ومستبدة، أو حركات إسلامية أصولية برامجها غامضة والتجارب التي سيطرت فيها على الحكم لا تبشر إلا بمزيد من الاستبداد والخوف (إيران، السودان، «حماس»، ...). وعلى هامش هذا الضيق الخانق في الخيارات يصبح الانحياز الى الأنظمة القائمة على ما فيها من سوء خياراً عقلانياً كما يجادل كثيرون. وعلى رغم ما في هذا الرأي من وجاهة لا يمكن أن يتم التغافل عنها، إلا أن التجربة والشواهد المتزايدة تضعف منطقه الإجمالي. فعلى المدى الطويل أيضاً تخسر الحداثة والعلمانية كثيراً عندما تكون ممثلة بأنظمة مستبدة وفاشلة، والخسارات المتلاحقة لهما في منطقتنا كانت هي الممول الأهم لصعود التيارات الأصولية. فهذه الأخيرة لم تكن لتنجح بناء على برامج خارقة اقترحتها على الشعوب، بل لأن البدائل الحداثية والعلمانية فشلت فشلاً ذريعاً وصارت عناوين للاستبداد والفساد والقمع ليس أكثر.
الدرس الثالث يقول إنه على عكس الاتهامات الإحباطية للشباب العربي بأنه غير مبال وتافه (لأنه جيل «ستار أكاديمي» وتلفزيون الواقع!) ولا يهتم بالشأن العام فإن الشرائح الشبابية العربية تمتلك وعياً عميقاً وحاداً بالقضايا التي تحيق بها. والأهم من ذلك أنها مستعدة للتضحية القصوى في سبيل تحسين ظروفها ومواجهة ما تراه ظلماً وغياب عدالة. ويثبت الدرس التونسي أيضاً أن ليس من الدقة القول بأن الشريحة الشابة النشطة الوحيدة في الشارع العربي هي الإسلاميون. فالذي يتبدى للمتابع للشارع المنتفض في تونس هو أن الاحتجاجات عامة والمشاركين فيها يتجاوزون أي محاولة للتصنيف الحزبي، إسلامية كانت أم علمانية. بل ربما يجوز تسجيل ملاحظة غياب الإسلاميين، فضلاً عن تصديهم لقيادة هذه الاحتجاجات كما تقول أطروحة سيطرة الإسلاميين على الشارع العربي.
الدرس الرابع يقول إنه ما عاد بإمكان السلطة في تونس، أو في أي بلد عربي آخر، التخفي وراء النجاح الاقتصادي وتوظيفه لإدامة الانسدادات السياسية والتسلطية. لا يمكن أن يتواصل أي نجاح أو انفتاح اقتصادي من دون أن يرافقه نجاح وانفتاح سياسي. يكفي أن نتذكر أن تكافؤ الفرص والشفافية والمحاسبة هي مفاهيم تقع في قلب أي اقتصاد ناجح. وهذه المفاهيم لا يمكن أن تتواجد وتشتغل وتحافظ على فاعلية الاقتصاد إلا في مناخ حريات سياسية وتعبيرية ونزاهة في النظام القانوني. في غياب القضاء المستقل والتعددية السياسية والصحافة الحرة فإن الاقتصاد الناجح في الظاهر يعمل بسرعة خارقة على تخليق فساد مستشر ومركب، ينمو من دون ردع ولا رقابة. ثم يبدأ هذا الفساد بقضم اللحم الحي للاقتصاد الناجح الذي تولد على هامشه.
الدرس الخامس يقول إن الاعتماد على الدعم الخارجي لتعويض الشرعيات المنقوصة لا يحقق إلا استقراراً قصير الأمد. ليس هناك من بديل عن شرعيات قوية متوافق عليها ومتأسسة على بنيات داخلية. الخارج، وتحديداً الدول الغربية، تواجه هي الأخرى تحولات العالم المعولم والإعلام المنفلت حتى عن سيطرتها. السياسات الإزدواجية سرعان ما صارت تنفضح، وما عاد بالإمكان إحكام طوق التواطؤ الإعلامي والسياسي لدولة حليفة تقمع شعبها وتدوس على قيم الحرية والتعددية وحقوق الإنسان التي يدعو لها الغرب نفسه. والقوى الديموقراطية والحقوقية والإنسانوية في الغرب تستهدف فضح حكوماتها في كل حالة تسيس نفاقي. ولهذا فإن أقرب الداعمين للحكومة التونسية في الغرب، فرنسا والولايات المتحدة، اضطرتا وبعد صمت مخز للحديث علانية ونقد ما يحدث من قمع شديد في الشارع واستخدام مفرط للقبضة البوليسية. ليس هذا فحسب بل نعرف أيضاً من التجربة التاريخية أن الدول الكبرى والغربية تراقب أي وضع محلي عن كثب في الدول الحليفة وغير الحليفة، وأنها لا تتردد في تغيير «الأحصنة» في اللحظة المناسبة. لا يهمها أن يسقط بيدق على رقة الشطرنج هنا أو هناك، أو أن يرتفع بيدق جديد، أو أن يتم تأهيل بيدق قديم، فما يهمها هو الرقعة نفسها وليس البيادق التي فوقها. منطقتنا رأت ذلك في حالات عدة من إيران الشاه وعراق صدام حسين إلى ليبيا القذافي، وغيرها كثير. * محاضر وأكاديمي - جامعة كامبردج
|