الأحد, 16 يناير 2011
ياسين الحاج صالح
في وقت واحد تقريباً وقعت في أربعة بلدان عربية عمليات اجتماعية يرجح أن يكون لها ما بعدها. في مصر، ذهب نحو 23 مسيحياً مصرياً ضحية جريمة إرهابية مشينة ذات دوافع دينية سياسية. وفي السودان يوشك الجنوب أن ينفصل، ليصفو الجو لتطبيق «الشريعة الإسلامية»، على ما وعد (توعد؟) الرئيس السوداني من ظلوا في عُهدته من السودانيين. أما في تونس فانطلقت منذ أسابيع احتجاجات اجتماعية عمت عدة مدن. ومثل ذلك حصل في الجزائر، لكن على نطاق أضيق.
مشهدان متعاكسان بين بلدي وادي النيل والبلدين المغاربيين. في الأولين شكلٌ «هويتي» للصراع الاجتماعي، يهيمن فيه البعد الديني. وهذا بعد تفتيتي ونابذ، تمثلت محصلته المُجرّبة طوال أكثر من ثلاثة عقود في انقسامات وطنية خطيرة في معظم بلداننا، وفي تراجع ثقافي وأخلاقي محقق، فضلاً عن تمكين القمع الحكومي ومنحه شرعية تحكيمية ما كان يستطيع تحصيلها لنفسه. وبينما عرضت سياسة الإسلاميين على الدوام نزعة معاداة للمجتمع ذاته (وليس للدولة وحدها) تتناسب طرداً مع تعريفهم لأنفسهم بدلالة المعتقد الديني وحده، فالإسلاميون المتأخرون، وفي صيغة السلفية الجهادية بخاصة، يظهرون نزعة عدمية مدمرة، تتحمل مسؤولية واسعة عما حل من دمار بأفغانستان، ثم بالعراق. ويُراد تعميم هذا الفضل على مصر. وهو معمم منذ الآن على السودان الذي وفرت البلاغة الإسلامية الشكلية لرئيسه فرصة تحويل تخليه عن الأمانة الوطنية إلى وفاء بأمانة دينية أرفع مرتبة.
في تونس والجزائر المشهد مغاير. كان ظاهراً منذ البداية أن ما تستهدفه الانتفاضة التونسية هو الأوليغارشية الحاكمة، الجامعة بين سلطة مطلقة وبين ثراء فاحش. يتكثف المنطق الاجتماعي للاحتجاجات التونسية في شعار متواتر: «الشغل استحقاق». يطلب جمهور المحتجين فرص عمل لا تتيحها هياكل للسلطة والثروة التي تشغل مراكز النفوذ مواقع امتيازية مهيمنة فيها. والمضمون نفسه يُستخلص من الواقعة التي أطلقت المسلسل الاحتجاجي التونسي أصلاً، وهي انتحار شاب عاطل من العمل، محمد بوعزيزي، كان مُنع من بيع خضار وفواكه على عربة يدوية، وتعرض للصفع فوق ذلك من شرطة البلدية. يتقاطع في هذه الواقعة ذل حاجة مواطن متعلم مع الإذلال من قبل سلطات فظة وعديمة الحس. وهو المضمون نفسه الذي حملته أغنية «ريس البلاد، شعبك مات» لمغني راب شاب سجن إثرها لبعض الوقت.
والأمر نفسه كما يبدو في الجزائر. كان محرك الاحتجاجات هنا رفع أسعار سلع أساسية بينما تفتك البطالة بنحو ربع قوة العمل الجزائرية حسب تقديرات غير رسمية (الحكومة تقدر البطالة بـ10 في المئة). وفي البلدين نخبة حكم معمِّرة، ثرية، سياساتها مفتقرة إلى أي معنى ثقافي أو بعد قيميّ، ولا تظهر حساسية حيال مطالب السكان وتطلعاتهم. والجيل الناشط في الاحتجاجات اليوم، شباب متعلمون دون الخامسة والثلاثين، فاقد للأمل، يبدو أن معظم أفراده لا يجدون مخرجاً من أوضاعهم غير مواجهة مباشرة مع ما يسلبهم فرص العيش وما يقيدهم. أما الهجرة إلى أوروبا فمقيدة جداً اليوم. ولعله يغدو ظاهرا أن «الهجرة» إلى السماء تسبب مشكلات وطنية ولا تحل مشكلات اجتماعية.
وبفضل صفتها الاجتماعية العامة، تحوز الوقائع المغاربية طابعاً «تقدمياً» وديموقراطياً خلافاً للوقائع المصرية والسودانية. فحتى لو أخفقت الحركة الاحتجاجية، فقد نشطت حيوية المجتمعين ورفعت اعتبارهما الذاتي، ومنحتهما، التونسي بخاصة، ذاكرة احتجاج عامة وشهداء اجتماعيين. فإذا حققت بعض أهدافها الاجتماعية والسياسية كانت خطوة مهمة نحو تعديل موازين القوى الاجتماعية لمصلحة الفئات الأكثر هامشية وحرماناً، أي نحو الديموقراطية. ومنذ الآن هناك وعود من الحكومة التونسية بتوفير فرص العمل وإطلاق مشاريع تنموية في مناطق الاحتجاجات. وقد أردِفت بعد قليل بإقالة وزير الداخلية ووعدٍ بالإفراج عن جميع موقوفي الانتفاضة، وتعهدٍ بالتحقيق مع مسؤولين فاسدين.
لا يوثق بهذه الوعود، لكنها اعتراف موارب من قبل السلطات بشرعية الاحتجاجات ومحاولة لرشوتها وإجهاضها، بعد أن أخفق التهديد ووصم المحتجين بالإرهاب و «عصابات الملثمين». وأخيراً من المتوقع أن تكون للتحركات الاجتماعية انعكاسات على التفكير الاجتماعي والسياسي في البلدين وفي العالم العربي ككل. فلطالما ارتبط التطور الفكري بنوعية الحركات والمقاومات الاجتماعية وبمدى قوتها واستمرارها. وبالعكس، تعكس المناخات الثقافية القاتمة، المخيمة عربياً اليوم، خمود المقاومات الاجتماعية، أو انزلاقها في مسارات خصوصية، دينية وفئوية.
هذا هو حال الوقائع المصرية والسودانية. إنها ممزِّقة اجتماعياً ومدمرة معنوياً وثقافياً، ولا تنفتح على أي أفق عام أكثر تحرراً وإنسانية. وهي حركات خاصة، طائفية، هزيمتها محنة كبيرة، وانتصارها كارثة عامة. وفي مصر، ومع الاعتداءات الإجرامية على مسيحيين مصريين يغدو النظام حامياً معترفاً به للمسيحيين وضامناً للاستقرار العام. أما في السودان فإن آفاق الشمال تنفتح على طور أشد قسوة من حكم استبدادي ديني، أو على مزيد من تفكك البلد. وفي حين أن استقلال الجنوب يخلِّصه من الشكل الأكثر فظاظة من تحكم الشمال، إلا أنه بحد ذاته ليس حلاً لأية مشكلة تواجه دولة ناشئة.
هل تؤشر الاحتجاجات المغاربية على عهد جديد من الكفاح الديموقراطي الاجتماعي؟ لا نملك ما يبيح لنا إجابة مقنعة. لكن الطبيعة المفاجئة لتلك الوقائع تظهر أن في مجتمعاتنا كوامن قد تتفجر على حين غرة هنا أو هناك، مغيّرة الوقائع والتوقعات، ومحررة الإرادات والأذهان. وقد نرى يوماً إلى الاحتجاجات الاجتماعية هذه كتمارين أولية في الاعتراض العام على عهد الحكام الأغنياء الذين يحكمون بلدانهم من دون مراقبة ومن دون مسؤولية ومن دون مشروع عام من أي نوع، وبثروات فاحشة. المفاجأة هي شيمة الحدث التاريخي دوماً. فهو لا يكون متوقعاً إلا بعد أن يقع، ومن وجهة نظر المؤرخين. وقد يقال حينها إن التمردات الاجتماعية كانت مكتوبة أصلاً في ظاهرة الحكام، المغرورين جداً والأثرياء جداً، واللاإنسانيين جداً.
كشفت الاحتجاجات المغاربية فاعلية شبكة الانترنت في نقل أخبار الاحتجاجات وتوثيقها وتعميم خبراتها، وأنها تشكل عالماً موازياً خاض المحتجون والأوليغارشيات الحاكمة معاركهم فيه بالتوازي مع معارك العالم الواقعي. وأظهرت أيضاً ظهور بيئة افتراضية عربية متضامنة بقدر معقول. لكن ظهر كذلك أن هناك نظاماً عربياً رسمياً متضامناً وفعالاً. الحكومات مبتئسة مما يجري في تونس وجرى في الجزائر، وبادر الجار الليبي إلى إجراءات تطعيمية استباقية. وحين لا يصف الإعلام الحكومي الاحتجاجات بأنها أعمال شغب، فإنه يسكت عنها.
|