بغداد - فاضل النشمي ربما ليس في وسع الكتابة، مهما كانت محايدة، الخلاص من شبهة الانحياز الطائفي الشائعة على نطاق واسع في العراق، وليس في وسعها التخلص كذلك من شبهة العزف على الوتر الطائفي حتى لو سعت الى قدر من الانصاف. لذلك، اظن ان من يرغب في الكتابة عن تظاهرات العراق هذه الأيام ويضعها في خانة احدى طوائفه، من حيث الفاعلية والانتاج، لا بد ان يتحمل ما قد يتعرض له من نقد عن طيب خاطر.
انها ثورة الشيعة ضد شيعة السلطة، اتصور هذا أقرب تعبير عما يحصل في العراق، إذ يملأ آلاف المتظاهرين الشيعة غير المرتبطين بأحزاب السلطة ساحات المدن وشوارعها. وبتعبير أدق هذا ما يحصل اليوم في قلب معاقل احزاب الاسلام السياسي الشيعي، في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية.
يعضد وجهة النظر هذه، الدعم المتواصل من مرجعية النجف ممثلة بزعيمها الاكبر آية الله علي السيستاني. ومعروف ان التأثير الاساسي لمرجعية النجف هو داخل الاوساط الشيعية، ويكاد لا يكون لها تأثير يذكر على بقية المكونات العراقية كالاكراد والسنة. لكن ذلك لا يعني التلميح الى أية مظهر ديني شاب التظاهرات في حال من الاحوال، انما القول انها "شيعية"، ناجم عن اعتبار اساسي وحاسم، هو المناطق والمحافظات الشيعية التي انطلقت منها. وباعتبار جديّ آخر ومهم، هو ان غالبية الفاعلين الاساسيين من الكتاب والمثقفين والناشطين المدنيين الذين اعدوا وخططوا لها، ان لم يكونوا جميعا، تنتمي الى الجماعة الشيعية، ولو كان على مستوى الانتماء العائلي والاجتماعي فقط.
وغير ذلك، يمكن ملاحظة الطابع الشيعي للتظاهرات من الغياب شبه التام لمكونين عراقيين اساسين، هما الاكراد والسنّة، لأسباب معروفة ربما، وأهمها خروج المحافظات السنيّة عن سيطرة الحكومة المركزية ونزوج غالبية سكانها بسبب سيطرة "داعش" عليها. الى جانب النزعة الانفصالية للكرد وعدم عنايتهم واكتراثهم بما يجري في بغداد وغيرها من مدن الوسط والجنوب.
قبل سنوات، وفي ذروة تصعيد بعض الشيعة ضد سنّة العراق واعتبارهم امتدادا طبيعيا لحكم صدام حسين الرث، انبرى السياسي والكاتب الشيعي المخضرم حسن العلوي للدفاع عن السنّة أمام الانتقادات المشبعة بالضغائن، وقد اهتدى في دفاعه ذلك الى مقاربة ذكية لا تفتقر الى الواقعية، مضمونها ان سنّة العراق هم غير سنّة السلطة. واثبت عبر امثلة كثيرة ان ملايين السنّة لم يجنوا من حكم البعث وصدام في العراق، سوى الضغائن والسمعة السيئة. ثم حوّل العلوي، بذكاء ومكر الافكار والطروحات التي عرف بها، مقاربته تلك نحو الشيعة، ليقول للناس وخصوصا السنة: ان شيعة السلطة هم غير الشيعة العاديين. ولعل تظاهرات العراق "الشيعية" اليوم تؤكد ما ذهب اليه العلوي بقوة.
اليوم ومع الغضب الشيعي الكبير، يظهر بما لا يبقي مجالا للشك، ان قطاعات واسعة من الشيعة ضاقت ذرعاً بما فعله ويفعله ابناء جلدتهم من ساسة الشيعة. لقد صبر القوم اكثر من عقد من الزمان على الهشاشة السياسية وسوء الادارة والفساد، فنفد صبرهم. ان مسارات السياسة السيئة في العراق، الى جانب استهتار الجماعة السياسية بالدولة والنهب المنظم للثروة الوطنية، عوامل الجأت شيعته الى دروب التظاهر والاحتجاج.
ومع انه لا يمكن اغفال العامل الشيعي الحاسم في تظاهرات العراق، لايمكن ايضا تجاهل البعد المدني وغير الطائفي فيها، ولعل من حسن الحظ ان النخب الثقافية والصحافية والاكاديمية التي تقود التظاهرات اليوم، ظلت مخلصة لطابعها المدني والعلماني على رغم الهياج الديني الذي ملأ العراق منذ عام 2003 .
ان الشيعة وبحكم غالبيتهم العددية وفاعليتهم يمكن ان يعيدوا الى العراق، اذا استمروا في نضالهم المشروع، جزءاً كبيراً من هيبته المفقودة ويسيروا به نحو بر الأمان. كما في امكانهم ان يضعوا حداً نهائياً لسوء الادارة والفساد الذي تسبب به أبناء جلدتهم من رجالات الاسلام السياسي. ومن شأن ذلك كله ان يعيد ترميم العلاقات المتوترة بين ابناء الشعب الواحد، الى جانب اعادة ترميم سمعة البلاد على المستويين العربي والدولي بعدما تضررت خلال العقود الاخيرة. |