السبت, 15 يناير 2011
صلاح سالم *
لعل الاختبار الصعب الذي تخوضه الدولة الحديثة اليوم يتعلق بإمكانية التوفيق بين ضرورتين: الأولى هي رسوخ سلطتها المركزية التي تمنح، لها وحدها، السيادة وتبقيها حية على الدوام. والثانية هي التحكم في هذه السلطة وحسن توجيهها من قبل مواطنيها الأحرار ولمصلحتهم، أي الجمع بين قيمتين تبدوان للوهلة الأولى متناقضتين هما الحضور القوي للدولة، والسيادة الكاملة للشعب. ولا يشير مفهوم الاستبداد هنا إلى نوع معين من أنظمة الحكم (رئاسي / برلماني) أو شكل معين من أشكال بناء الدولة (ملكي / جمهوري)، بل إلى نسق سياسي يقوم في جوهره على الإكراه والتسلط بصرف النظر عن مظاهره الخارجية. فالمهم في تشكيل هيكل الاستبداد هو مدى توافر بنية سياسية استبعادية تمارس حضورها لمصلحة الأقلية، فيما تستبعد المجموع، وترفض بالمطلق إمكانية تداول السلطة. وفي هذا السياق يمكن فهم تحولات النظام السياسي المصري في الحقبة المعاصرة، أي التالية على ثورة تموز (يوليو) 1952، والتي شهدت تعاقب نموذجين أساسين:
الأول هو نموذج الثقافة السياسية التسلطية للنظام الناصري والذي حمل عبء التطور الاجتماعي والسياسي لمصر حتى نهاية الستينات تقريباً من خلال نموذج للتحديث السلطوي أخذ إلهامه من الحداثة الأوروبية وإن في صورتها الاشتراكية، كما تأسس على ركائز عدة، مكّنته من صياغة عقد اجتماعي مصري جديد بين الدولة والمجتمع. هذا العقد لم يبلغ الأفق الديموقراطي قط لقصوره المؤسسي والبنيوي، ذلك أن الممارسة الديموقراطية لا تتحقق في الواقع العملي إلا بتوافر المؤسسات اللازمة لضمان مشاركة سياسية فعلية، فإذا نجح المجتمع في تكييف المؤسسات القائمة اتجه إلى أن يصير نظاماً سياسياً مشاركاً. أما إذا فشلت عملية التكييف فإنه يتحول إلى نظام جماهيري يقوم على التعبئة لا المشاركة، وهو بالضبط ما حدث في مصر خلال الخمسينات والستينات كنتيجة لحضور قيادة كارزمية ذات تأييد سياسي جارف لم تكن حريصة على تعبئة هذا التأييد وترجمته مؤسسياً. كما أن النظام الناصري لم ينفتح أبداً على تيارات الحركة الوطنية خصوصاً تلك التيارات الديموقراطية المعارضة وعلى رأسها حزب الوفد كنتيجة لحال من الشك المتبادل، ولم يعترف كذلك بالقوى السياسية الأخرى في البلاد وفرض عليها نوعاً من «الإجماع السياسي» في جبهة وطنية أو تكتل مجتمعي، صارت مع كل القوى الخارجة عليه لا شرعية.
غير أن الأمر المؤكد أن هذا المشروع تبنى أكثر مطالب الحركة الوطنية نبلاً وعمقاً كإقامة جيش وطني، وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، وتحقيق الإصلاح الزراعي، وفرض التعليم النظامي الواسع الذي كان طه حسين اعتبره كالماء والهواء. كما حقق الكثير من الأهداف التحديثية العميقة التي تعد شروطاً موضوعية لازمة، بل وسابقة على أي تحول ديموقراطي، بل إنّه أوجد مكونات وعي ليبرالي حقيقي خصوصاً على مستوى إنضاج إدراك الذات الفردية لـ (المصري) كإنسان، ولموقعه في وطنه (مصر)، ولموقع بلاده في العالم.
أما الثاني: فهو نموذج الثقافة السياسية التلفيقية الذي نهض منذ نهاية السبعينات وحتى الآن على المراوحة بين ثنائيات كثيرة متقابلة لم يحسم الاشتباك بينها قط، حيث دار الصراع بين التعددية السياسية والتقييد السلطوي، بين ثقافة المشاركة وثقافة التعبئة، الأمر الذي فتح الباب أمام مرحلة جديدة من تطور النظام السياسي أهم سماتها: هي الانتقال من شكل اتسم بغياب المنافسة السياسية وبسيادة مفهوم «الإجماع الشعبي» ووجود أيديولوجية رسمية سائدة وتنظيم سياسي واحد، إلى شكل من أشكال التعددية المقيدة كان من شأنه صدور صحف لأحزاب معارضة وإدخال مفهوم المعارضة في النشاط البرلماني والانتخابات العامة، في موازاة الحديث عن ضرورة الانتقال من الشرعية السياسية الكارزمية «الثورية» إلى الشرعية الدستورية، حيث مرجعية القانون والمؤسسات.
لقد كان ثمة أمل في أن تتحول التعددية المقيدة إلى تعددية حقيقية تعكس تبايناً في مراكز القوة السياسية، وتتيح إمكانية تبادل السلطة، غير أن عقوداً ثلاث، شهدت موجتين ديموقراطيتين عالميتين، قد مرت من دون أن تتمكن هذه التعددية المقيدة من أن تتجاوز نفسها، أو تتنازل عن احتكارها للسلطة في مركز واحد، وحزب مهيمن ملتصق بالجهاز البيروقراطي للدولة، ويجمع حوله قبيلة من المنتفعين بهذا الجهاز والدائرين في فلكه، ومن رجال الأعمال المتحالفين مع السلطة، على نحو يعيق تمثيل التيارات الفكرية والسياسية الفاعلة في المجتمع داخل مؤسسات النظام. ولعل من الصحيح أن هذه العقود الثلاث المنصرمة قد شهدت نوعاً من الاستقرار السياسي، ولكنه ليس ذلك الاستقرار النابع من رسوخ التوازن بين مؤسسات النظام القائم، وبين القوى المجتمعية الفاعلة، على نحو يعبر عن قبولها للنظام العام ويحقق لها إمكانية التأثير على مسار السياسة العامة، وعلى صنع القرار الوطني، وربما تداول السلطة مع الحزب المهيمن، بل هو ذلك الاستقرار المؤسس على تجميد السياسة نفسها كفعل وحركة ونشاط بفعل الاستخدام المفرط لقانون الطوارئ، والإشراف الأمني على شتى مجريات الواقع السياسي بدءاً من انتخابات اتحادات الطلاب الجامعية، وحتى النقابات المهنية، وصولاً إلى التغلغل العميق داخل الأحزاب السياسية، ومحاولة تدجين قياداتها، أو بث الخصومة وإشعال النار بين المتنافسين داخلها بقصد شل حركتها وتعريتها أمام أنصارها والمجتمع السياسي كله.
والأخطر من ذلك أن ركود الحركة السياسية أدى إلى نوع من الركود المجتمعي العام، وأمام شيوع الفساد ونموه إلى درجة خانقة، تراجعت فكرة سيادة القانون، وتدهورت قيم الانتماء الوطني، بل يمكن القول بوجود بعض مظاهر الانحطاط المجتمعي تكشف عنها أنماط جديدة وغريبة من الجريمة ناهيك عن حزمة السلوكيات المدينية والقيم الحضارية التي يلمس الجميع تدهورها في الشارع كما في المؤسسات وفي غير مكان.
وربما كانت أكثر الظواهر إيجابية في تلك الفترة المنصرمة تتعلق باتساع نطاق حرية التعبير، كماً وكيفاً كما هو مشهود، سواء عبر ظاهرة الصحف المستقلة، أو القنوات الإعلامية الخاصة التي اقتحمت الكثير من القضايا التي لم تكن لتطرح في الفضاء الإعلامي الرسمي، وهو أمر دفع الإعلام الرسمي نفسه إلى نوع من الانفتاح على قضايا الناس خشية البوار وغياب الصدقية الكاملة. غير أن استمرار انغلاق النظام السياسي، وانسداد أفق التغيير الحقيقي واكتفاء الدولة بإدخال تغييرات جزئية ومرحلية ببطء شديد لا يطاوع أحلام الناس وطموحاتهم، ومن ثم شعورهم بالضياع وفقدان السيطرة على مصائرهم أمام هجمة الفساد بالذات، قد حول الفضاء الإعلامي من منتدى للحرية إلى حائط مبكى يفجر لدى الناس إحباطاتهم بدلاً من إثارة أحلامهم.
في هذا السياق التاريخي للتطور السياسي المصري يمكن فهم حادثة الانتخابات التشريعية الأخيرة، والتي مكنت الحزب الحاكم من تكريس هيمنته المطلقة على البرلمان المقبل إذ حصد واقعياً ما نسبته 93 في المئة أي 475 من مقاعده البالغة خمسمئة وثمانية مقاعد بعد إضافة الأعضاء الذين يدللهم الحزب بتسمية مبتكرة وهي «المستقلون على مبادئه»، ما جعل منها الأسوأ على صعيد التمثيل السياسي للمعارضة المصرية منذ بدأت التجربة التعددية سواء عبر (المنابر) عام 1976، أو الأحزاب عام 1979، أي في ظل «مجلس الأمة» القديم، وفي إطار الحزب الواحد «الاتحاد الاشتراكي» ما يعني حدوث ارتكاسة إلى طفولة التجربة الحزبية في مصر يعكسها، ليس فقط انخفاض درجة تمثيل المعارضة (7 في المئة)، بل وأيضاً تدني مستوى التفويض العام إذ لم تتجاوز نسبة التصويت 25 في المئة على أرجح الحسابات، وهو أمر لا يمكن تفسيره إلا بأزمة الثــقة الكــــبيرة بين الناس وبين النظام القائم، والتي عمقها رفضه أية مطالب عامة أو للمعارضة الحزبية على صعيد تصحيح الخريطة السياسية أو توفير ضمانات حقيقية لنزاهة العملية الانتخابية، وذلك على منوال المطالب الأربع الآتية:
أولاً: مطلب العودة إلى القائمة النسبية على مستوى الدوائر الواسعة التي قد تمتد إلى حدود المحافظة الواحدة أو تقل عنها ولكنها في كل الأحوال تؤدي إلى تفكيك المكون القبلي في السلوك التصويتي لأنها بتوسيع الدائرة تضع كل مرشح أمام أطياف من الناخبين خارج قريته الصغيرة أو مركزه الانتخابي المحدود.
ثانياً: العودة إلى الإشراف القضائي الكامل على عملية الاقتراع، وفق قاعدة «قاض لكل صندوق»، وهي القاعدة التي أثبتت جدواها وفاعليتها في الانتخابات الماضية (2005) التي أجريت على ثلاث مراحل، ومن دونها لم يكن ممكناً تحقيق الإخوان نحوّ 20 في المئة من المقاعد، خصوصاً في المرحلتين الأولى والثانية منها، حيث لم يفز الحزب الوطني آنذاك سوى بنحو 37 في المئة قبل أن يزداد التضييق في المرحلة الثالثة، وقبل أن يضم إليه كل المستقلين فيما بعد لتزداد نسبته 75 في المئة.
ثالثاً: قضية الجداول الانتخابية نفسها، ومدى نقاوتها من المتوفين والمغتربين ممن لا يصوتون واقعياً، ولكن تبقى أسماؤهم مدرجة في الجداول على نحو يجعل من تزوير أصواتهم أمراً ممكناً تماماً، ورفض الخيار العملي المطروح منذ سنوات بأن يتم التصويت من خلال بطاقة الرقم القومي وهي وثيقة مضمونة لا يمكن التلاعب بها، بديلاً عن البطاقة الانتخابية العتيقة، وهو أمر كان سيحقق السرعة والسهولة لعملية الاقتراع إلى جانب تحقيق العدالة والنزاهة، ولكن لا الحكومة أرادت، ولا اللجنة العليا استجابت لأن الحزب الحاكم، بالضرورة، لم يرد.
رابعاً: الإصرار على فكرة الكوتة النسائية التي منحت للمرأة 64 مقعداً تمت إضافتها إلى المجلس الحالي، وقد نالها الحزب الوطني كاملة تقريباً. وناهيك عن غياب كوادر نسائية حقيقية تستطيع شغل مقاعد البرلمان عملياً، فإن الفكرة نفسها غير ديموقراطية تفتح الباب على التمثيل السياسي الطائفي وتتيح للأقباط مثلاً أو الشباب أن يطالبوا بالمثل، ما يحيل النظام السياسي المصري إلى نظام طائفي، يقوم على توزيع نسب فئوية وليس على الجاهزية السياسية أو القدرات البرلمانية، ومن ثم فإن هذه الكوتة لا تعدو أن تكون خطوة رجعية إلى الخلف وإن ارتدت ثوب التقدمية وادّعت بحق تمثيل المرأة التي يكفيها أنها تملك، ولو نظرياً، الفرص نفسها المتاحة للرجل في الترشيح والمنافسة.
والأمر الذي لا شك فيه هنا أن ثمة فرصة ضاعت على مصر لإنجاز تحول ديموقراطي حقيقي يتجاوز منهج الخطوة خطوة الذي مارسه النظام الحاكم طيلة ثلث القرن الماضي ولكنه لم يعد مفيداً الآن ولا مقبولاً من أحد ولا كافياً لإرضاء أشواق ديموقراطية عميقة ومحرومة لدى المصريين الأمر الذي يثير مخاطر العمل من خارج الشرعية خصوصاً من قبل جماعة «الإخوان المسلمين» من ناحية، والمعارضة غير الحزبين خصوصاً جبهة التغيير وجماعة 6 نيسان (أبريل) من ناحية أخرى. ذلك أن انسداد أفق التغيير من داخل النظام، مع استمرار بل تزايد دوافع هذا التغيير بفعل تنامي صعوبات الحياة وغلاء المعيشة لدى جل المصريين، إنما تدفع إلى محاولة التغيير الجذري من خارج النظام. ولو أضفنا إلى ذلك وجود البرادعي الذي صدقت نبوءته وثبتت جدوى معارضته المشاركة في الانتخابات طالما لم تقدم الحكومة ضمانات واضحة وكافية لعدم تزويرها، وعودته أخيراً بحماسة أكبر مهدداً بالعصيان المدني كخيار أخير لفرض مطالب الإصلاح السياسي الأكثر مشروعية، بل وإعلان جماعة الإخوان عزمها التنسيق معه، يصبح الأمر خطير جداً، والتحدي كبيراً لأن الإخوان قادرون على تحريك الشارع خلف الرجل الذي يحظى بصدقية كبيرة لدى الناس، خصوصاً أن تلك الحركة ستكون مسببة بوقائع تزوير إرادتهم على النحو الذي لمسوه، وتحدث عنه المراقبون داخلياً وخارجياً، بل وأكده القضاء المصري نفسه. وإزاء خطر العصيان المدني واحتمالات الفوضى المفتوحة على سيناريوات الهيمنة العسكرية أو الدينية على النظام والدولة، تبقى الديموقراطية هي الخاسرة، وتستحيل الحرية في مصر معضلةً.
* كاتب مصري
|