جورج ناصيف
من خلال عشرات الزيارات التي قادتني الى مصر، منفرداً أو في اطار وفود مسيحية – اسلامية، تحصلت لدي صورة عن الواقع الديني القبطي – الاسلامي احسبها أمينة وتحمل قدراً كبيراً من تفسير الحالة المتوترة التي تعيشها مصر اليوم.
في التاريخ ان القبط يرادفون مصر بمسيحييها ومسلميها قبل ان يختص الاسم بالمسيحيين المصريين وحدهم. فالدكتور اسماعيل صبري عبد الله أحد مؤرخي مصر الكبار يعتبر انه يجب التخلي عن فكرة العصر الروماني ليحل محلها العصر القبطي الذي يغطي ستة قرون ما بين اعتناق المصريين الديانة المسيحية والفتح العربي. وقد اعتبر طه حسين عميد الأدب العربي ان الكنيسة القبطية "مجد مصري قديم" واستمرت الكنيسة القبطية تواجه جميع الغزاة السياسيين والدينيين من روما الى بيزنطية الى الحملة الفرنسية الى الارساليات التبشيرية وصولاً الى المشاركة الناشطة في الحركة العرابية تطلعاً الى الاستقلال تحت راية أحمد عرابي، وشعار تعانق الصليب والهلال الذي عاد التداول به أخيراً بكثرة لافتة.
وعلى المستوى الاجتماعي والعيش المسيحي الاسلامي الواحد كان معروفاً ان لا قرية في مصر تخلو من الاقباط الذين يجاورون المسلمين ويشاركونهم العادات والتقاليد الواحدة في الزواج والوفاة والخرافات والحكايات الشعبية، حتى ان المعتمد البريطاني اللورد كرومر لم يستطيع ان ينكر هذا الواقع فكتب في مؤلفه "مصر الحديثة": "القبطي الحديث من قمة رأسه الى أخمص قدميه في السلوك واللغة والروح هو مسلم وان لم يدر كيف، فالقبطيات محجبات كالمسلمات وعادات الزواج والوفاة متشابهة للتي تتبع لدى المسلمين".
لكن هذا الواقع الاندماجي بين المسلمين والاقباط بدأ بالتآكل المتدرج في تسعينات القرن الماضي بفعل تنامي موجة التطرف الديني حيث تكاثرت المظالم القبطية التي يعددها الاقباط على الوجه التالي: 1. امتناع الدولة عن السماح ببناء كنائس جديدة الا بحدود ضيقة وبعد مراجعات تصل الى رئيس الجمهورية شخصياً.
- عدم ترفيع الضباط الاقباط الى الرتب العالية الرئيسية من رتبة لواء ومشير. - عدم تعيين محافظين للمحافظات الكبرى من التابعية القبطية الا في ما ندر. - ندرة السفراء الاقباط في جهاز وزارة الخارجية المصرية. - ندرة وجود اقباط كرؤساء جامعات أو عمداء في الجامعات. - انتشار موجة الكتب التي تذم بالعقيدة المسيحية وعدم قيام الدولة بالحد منها أو السماح للاقباط بالرد العقائدي عليها في الاعلام الرسمي والخاص. - ندرة البرامج الدينية المسيحية في التلفزيون الرسمي في مقابل وفرة البرامج الاسلامية التي تذم العقيدة المسيحية. - عدم تدريس الحقبة القبطية في مناهج التعليم الرسمي. - ضآلة عدد النواب الاقباط في مجلس الشعب ما يلزم رئيس الجمهورية بتعيين عدد منهم. في المقابل كانت الدولة وخصوصاً الاحزاب ذات الطابع الاسلامي تسجل على الكنيسة القبطية ما يلي: - انكفاء المثقفين الاقباط عن الشأن الوطني السياسي العام وتراجع مساهمتهم في الحياة السياسية والثقافية المصرية. - استخدام المنابر الكنسية للتحريض السياسي والسجال الديني المتوتر. - قيام اقباط المهجر بدور مسيء الى مصر من خلال الاذاعات الدينية الخاصة بهم ومن خلال عقد صلات مشبوهة مع القوى الخارجية المناهضة للحكم في مصر. - استمرار التبشير المسيحي في احياء ومناطق ذات كثافة اسلامية سكنية بصورة تستفز مشاعر المواطن المصري.
في اطار هذا الاحتقان المتبادل والشكوى من الطرفين حدثت اعتداءات متعددة على الكنائس في القاهرة والصعيد والاسكندرية كما حصلت مناوشات عسكرية بين السكان الاقباط والمسلمين او بين الاقباط والشرطة العسكرية التي تتهم بمحاباة القوى الاسلامية المتطرفة. وفي هذا الاطار ايضاً كان القساوسة الاقباط يتهمون بتنصير الفتيات المسلمات او منع المسيحيات من اعتناق الاسلام بحرية.
في مواجهة هذا التوتر الطائفي الذي تنامى في نهاية القرن الماضي حرصت القيادتان القبطية والاسلامية على الاستمرار في نهج التواصل الديني خصوصا بين البابا شنوده الثالث وقيادات جامع الازهر وافتاء الجمهورية المصرية حتى ان التيارات الاسلامية المتطرفة كانت تتهم مقام الازهر الشريف بمحاباة الكنيسة القبطية.
لكن الشائعات التي راجت اخيرا عن منع سيدات مسيحيات (من زوجات كهنة اقباط) كن اشهرن اسلامهن من الوفاء بمستلزمات دينهن الجديد واحتجازهن في احد الاديار الرهبانية عاد فأشعل التوتر الديني رغم ان الباحث الاسلامي الكبير الدكتور محمد سليم العوا نفى واقعة الاحتجاز بعد ان تحقق من عدم صحتها. لكن الشائعات التي تلهب المشاعر الدينية بقيت سارية في الوسط الشعبي حتى جاءت مذبحة الاسكندرية لتؤكد ان الاحتقان الشعبي ما زال قائما.
حتى الآن ما زال الكلام يتناول ظواهر تنتسب الى الماضي ولو قريباً. لكن الجديد الذي تكشف بعد مجزرة الاسكندرية يقع في امرين مستجدين يطرحان اسئلة حول الوجهة المستقبلية للأحداث:
اولا: استنهاض احزاب وهيئات المجتمع المدني لنفسها من خلال التظاهرات المشتركة بين مسلمين واقباط، فضلا عن رفع شعارات تنتمي الى موروث شعارات حزب "الوفد" الذي عرفت قواعده حضورا قبطياً مميزاً كان قاعدة لحضور قيادي قبطي ذي شأن.
ثانيا: بداية ظهور حالة احتقان شعبي اعتراضي على سلوك بابا الاقباط الانبا شنوده الثالث تعيب عليه "التراخي" في مواجهة سلوك الدولة، والامعان في سياسة الدعة حيال النظام وكان لافتا للنظر ان الشباب الاقباط الذين اشتركوا بكثافة في التظاهرات كانوا يتجاهلون نداءات القسس الداعية الى التزام الهدوء والنأي عن العنف. يحدث ذلك خلافاً لتقاليد كنيسة اشتهرت بالصمت واحتمال اذى السلطة او المجتمع بتسليم شبه كامل حتى لقبت بكنيسة الشهداء الصامتين.
فهل يؤذن الانتقال الى مرحلة الرد على العنف بعنف مضاد (ولو كان كلامياً) بدخول القبط طور الخروج من الوداعة الى "مسيحية التوتر" والمواجهة، على غرار المسيحية اللبنانية؟ هل يكون لاستقلال جنوب السودان بغالبيته المسيحية والارواحية واكتساب اكراد العراق منطقة حكم ذاتي مفتوح على اشكال اكثر تطوراً من الانسلاخ عن الدولة الام اثره المباشر على الحالة القبطية التي كانت مسالمة ذات يوم؟!
كاتب وصحافي لبناني
|