الاحد 21 تشرين الثاني 2010
هاني درويش
إعلان الحزب الوطني الحاكم في مصر عن خوضه الانتخابات بنحو 800 مرشح على مقاعد نيابية يبلغ عددها 444، لهو أكبر نتاجات ما يمكن تسميته بالبلطجة السياسية. بلطجة بالمعنى الحرفي بما تحويه الكلمة من معاني الفجاجة والإفراط الاستعراضي في استخدام القوة، ناهيك بالطبع عن مخالفة ذلك للقانون. فكما هو معلوم، لا يحق لأي حزب تقديم أكثر من مرشح للمقعد الواحد، اللهم لو قصد بذلك إغراقاً سياسياً يشبه الإغراق الاقتصادي في معانيه وحوافزه. أضف الى ذلك ما يعنيه ذلك من عدم قدرة أو عدم رغبة الحزب في السيطرة على شرائح واسعة من أعضائه كانت في الماضي تفهم الإشارة بالعين فتسحب ترشيحها فوراً بعد أن يظهر دعم الحزب لمرشح بعينه. كان كافياً أن يقول النظام لتاجر مخدرات شهير اسحب ترشيحك فيسحبه ذليلاً خوفاً من ظهور قضية قديمة في ملفاته أو من تسريب مجمل الملف لصحيفة تنهش في لحمه. اليوم، حتى لو خرج تاجر المخدرات حرفياً من قوائم الحزب، لا يجد غضاضة في التظاهر مع مؤيديه وتوجيه سباب جماعي للحزب ومرشحيه في تظاهرات لا تنقطع بين المحاكم واللجنة العليا للانتخابات.
يقول السيد على الدين هلال أمين عام مساعد الحزب بمنتهي الصراحة في تبريره لازدواج مرشحي الحزب، إن هذا حزب كبير، فيه شرائح وقطاعات عريضة تبحث عن التمثيل. والرجل لا يخفي بذلك شيئين، الأول إن مؤسسته ليست حزباً بما تعنيه الكلمة من حد أدنى من الانضباط، أو حد أدنى من الاتفاق على برنامج سياسي ما، والثاني هو أن حزبه ما هو إلا جماعة منتفعين ضخمة، تتغول وتتحول الى شبكات متداخلة من المصالح يصعب التوفيق بينها، طالما تحول الحزب الى وحش شره يأكل مقدرات الدولة، وطالما الانتساب اليه يعني الركون على قضمة معتبرة من مقدرات البلاد الاقتصادية. تأمُل مرشحي الحزب في معظم الدوائر يشير أيضاً الى تصارع أجهزة الدولة الأمنية، فهذا مرشح الأمن الداخلي وذاك مرشح للأمن القومي؛ هذا مرشح العصبيات العائلية وهذا مرشح لجنة السياسيات... وهكذا تنفرط بقايا الدولة تمثيلاً في ثنايا الـ800 مرشح، وكأن الحزب يخوض معركته مع ذاته، مع تنوع مشارب جماعته المصالحية. وكأنه ايضاً لا يضع الآخرين (الأحزاب الأخرى) في مقام المنافسة، فهو يعلم أنه بذلك التمثيل المرن والمتداخل قبض على عصب التمثيلات الكبرى في مصر، وقد راعى القوى القابلة للحشد، أما ما تبقى فهو "فرم" أي مرشح معارض بين قبضة منافسيه، ففي الجولة الأولى على الأقل سيتصارع الجميع، يُسقط ضعاف الحزب مرشحي المعارضة على الأقل، ثم في جولة الإعادة يضمن الحزب احتشاد جمهور من خرج من المنافسة الى جوار مرشح الحزب الذي يعيد ترشيحه. أما لو جرى إسقاط مرشح المعارضة من الجولة الأولى فهذا يعني تحول الإعادة الى انتخابات داخلية حزبية.
لقد جرب الحزب في الماضي ثورة "الخارجين من جنة حساباته". ففي الجولة الأولى من انتخابات 2005 نجح من المستقلين (أي اعضاء الوطني الذين لم يجر اختيارهم) بالإضافة للاخوان نسبة 70%، ما ترجم فضيحة سياسية من النوع الغامق. فالقيادات فشلت في الاختيار بين متشابهين، ثم التفّ من طردوا من رحمته فأداروا معركة قدر لها أن تكون بحد أدنى من النزاهة مع وجود إشراف قضائي، الفضيحة السابقة حدثت لأن الفكر الجديد بالحزب حاول تغيير قواعد اختيار الحزب لمرشحيه، فحسبة "الشاذلي" التاريخية، والأخير هو أمين تنظيم الحزب وجامع مفاتيحه وشبكاته (توفي قبل أيام بعد 50 عاماً من التمثيل البرلماني) كانت تتضمن توازناً دقيقاً في المصالح وعيناً حمراء للمحازبين. جاء السيد جمال ورجاله بمواصفات مركزية من القاهرة، انتخابات داخلية و"مناظر" حزبية حقيقية. كان السيد جمال يراهن على تغيير هيكل جماعة المصالح بوجوه جديدة، بتشبيك يبدأ وينتهي برجاله. جاءت النتائج لتؤكد أن "عتاقي" الحزب هم الأبقى، هم كلمة السر.
الانتخابات الحالية بتركيبة الـ800 مرشح تجمع تكنيك جمال بالشاذلي. هي تضمن للاثنين تمثيلاً، والأقوى سيفوز. سيفوز الوطني فعلياً بنحو 60% من المقاعد من الجولة الأولى، ثم سينافس بشراسة على الـ40% الباقية في الجولة الثانية. لذا لا يبدو غريباً أن يخرج المختارون من قبل الحزب بمجرد ظهور قوائم المرشحين في كرنفالات إطلاق نار، في تظاهرات لـ"كيد" العوازل والاحتفال بالفوز المؤكد. فمجرد الحصول على ترشيح الحزب بات ضمانة مؤكدة للنجاح، وخلف الـ800 مرشح هناك ما يزيد عن الألف جرى اقصاؤهم، والحزب أجّل الإعلان عن ترشيحاته حتى ساعة قبل إغلاق باب الترشيح حتى لا يتحول مطاريده الى مرشحين مستقلين كما جرى في الانتخابات الماضية.
لكن كيف اختار الحزب مرشحيه عملياً؟ هل جرى ما يمكن تسميته بالمراجعة السياسية لأسماء أثبتت عدم صلاحيتها مثلاً؟ هل جرى تنقية المرشحين ممن باتوا عبئاً على الحزب بممارساتهم في الدورة السابقة؟ لا شيء من ذلك قد حدث، فعبد الرحيم الغول مرشح الحزب في قنا والمسؤول والحامي الرئيسي لمرتكب مذبحة الأقباط ليلة عيد الميلاد عاد مرشحاً مرة أخرى، ونواب القروض كما هم، بل وتبرز ترشيحات الحزب كعكة معتبرة لرجال أمن النظام، فبين المرشحين عشرات من ضباط جهاز الأمن الداخلي، وما مفارقة اللواء حازم حمادي إلا مفتتحاً في هذا القصيد.
عرف اللواء حازم حمادي في ثمانينات القرن الماضي بإسم حركي هو طارق ممتاز. كان مسؤولاً عن نشاط الناصريين في جهاز أمن الدولة. عذّب المتهمين في قضية تنظيم ثورة مصر الناصري وفي مقدمهم محمد زارع وحافظ أبو سعدة. الأخيران واجها معذبهم في تشكيل لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشعب الماضي، حيث عين حازم حمادي - ويا للمفارقة - رئيساً للجنة، لجنة حقوق الإنسان يشرف عليها من قام بتعذيب ناشطين، والناشطون المعذبون أنفسهم أعضاء في اللجنة!
بالصدفة البحتة وربما المرتّبة كنت طرفاً في مشهد طارق ممتاز. فبعد فترة اعتقال قصيرة أثناء عام 1997 جرى الإفراج عني. في اللقاء الأخير قبل دقائق من إطلاقي جرى استجوابي بسرعة في مبنى لاظوغلي أمام والدي. كان طارق ممتاز مسؤولاً عن ملف أبي الأمني، ولأن استلامي كان على يد ولي أمري (لا أعرف لماذا هذا التكنيك الأسري لشخص بلغ الثانية والعشرين من عمره ويحاسب على ممارسته السياسة) جرت المقابلة. كان طارق ممتاز في طريقه للخروج من الجهاز، عرض علي القهوة الشهيرة التي تعني في لغة الاعتقال مرورك عليهم من وقت لآخر للتعاون معهم. رفضت بهدؤ فيما ابي المنفعل يسأله: أنت عايز تجند ابني يا طارق بيه؟
نموذج آخر: نائب منطقة المطرية ملعب طفولتي الأثير، ميمي العمدة هو إبن عمدة المطرية حين كانت قرية صغيرة قبل أن تتحول على يد الثورة الى منطقة صناعية ستينية. كنا أطفالاً وهاني العمدة الابن الأصغر المرشح الحالي هو أعز أصدقائي في المدرسة الابتدائية، وعائلة العمدة بقت عائلة شرفية من الزمن القديم، تملك "زريبة" نشتري منها اللبن الطازج، و"دواراً" كبيراً لحل منازعات العائلات في منطقة "عزبة الليمون". عائلة خرجت من سياقات الحداثة لكنها ظلت رابضة في النسيج الحزبي الحاكم. تسبب الابن الأكبر لميمي العمدة في كسر ذراعي. كان بلطجياً منذ الصغر يحمل "سرنجة" ويدور بها في فترات الفسحة المدرسية لإخافة الأطفال الصغار. حملتني سيارة بيت العمدة البيجو الى مستشفى هليوبليس. جاءت زوجة العمدة الذي بلا عمودية في حي صناعي باذخ الى المستشفى بـ"عمود" طعام، فيه دجاجة مقلية وأرز وشوربة خضار، واعتذار عائلي عن شقاوة ابن العمدة التالف. ابن العمدة التالف أصبح نائباً للحي ومطعوناً ترشيحه الحالي من خصومه بالتزوير، متهم بتزوير شهادة الخدمة العسكرية وشهادة محو الأمية، ناهيك عن السمعة البراقة بتجارة المخدرات، لكنه سيمر وسينجح.
الحقيقة أن ملف الانتخابات البرلمانية في مصر هو أكثر الملفات التي تصيبك بالغثيان، غثيان يؤكد أن لا شيء يتغير فعلياً في مصر، بل إن أعظم المتخيلين لا يقدرون على تخيل قاع هذا المجرور الذي نسقط فيه، فماذا يحتاج طارق ممتاز أو حازم حمادي أو الغول أو ميمي العمدة بعد نصف قرن من النهب المنظم؟ ماذا يحتاجون فعلاً؟ ومما يخافون ؟ لا أحد يعرف، كما أن لا أحد تقريباً يهتم.
|