رغيد الصلح من الصعب ان يتحدث المرء عن الاستفتاء في السودان وعن ممارسة الحق في تقرير المصير. فالقرار بدا وكأنه اتخذ منذ زمن بعيد. وما يجري الآن لا يعدو الاحتفال بانفصال جنوب السودان عن شماله وقيام دولة افريقية جديدة. ومن الطبيعي ان يثير هذا الحدث الكبير تكهنات كثيرة ومناقشات واسعة حول تداعياته المحتملة السودانية والعربية والاقليمية. فالسودان هو اكبر بلدان افريقيا والمنطقة العربية مساحة، وربما اغناها من حيث الثروات الطبيعية والزراعية. والانفصال المتوقع يتم وسط صراع متفاقم بين الولايات المتحدة، من جهة، والصين، من جهة اخرى، على كسب السودان، ليس فقط بسبب ثروته النفطية ولكن ايضا بسبب قيمته الاستراتيجية. هذه الاهمية جعلته عند الاستراتيجيين البريطانيين خلال مرحلة الحرب الباردة كنقطة تجميع وتحشيد مناسبة لكافة القوات البريطانية في الشرق الاوسط بغرض شن هجوم مضاد ضد اي اجتياح سوفياتي محتمل للمنطقة.
الدومينو السوداني
ومع هذه التكهنات يمكننا ان نتساءل هل يؤدي انفصال جنوب السودان الى ما يشبه "تأثير الدومينو" على المنطقة العربية؟ هل هذا ما قصده ياسر عرمان نائب الامين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان ومسؤولها في الشمال عندما قال ان الاستفتاء المرتقب سوف يكون "تسوناميا كبيرا يهز الارض وساكنيها"؟(1) لقد استخدم مصطلح "تأثير الدومينو" لاول مرة في منتصف الخمسينات لشرح الآثار المتوقعة لسقوط فيتنام في يد الشيوعيين على جنوب شرق آسيا وعلى التوازن الدولي بصورة عامة. بحسب نظرية الدومينو كان من المتوقع ان يؤدي ذلك الحدث الى سقوط كل الانظمة الموالية للغرب في المنطقة في قبضة الاحزاب الموالية للسوفيات. ورغم ان نظرية "تأثير الدومينو" فقدت صدقيتها بعد ان تمكنت الانظمة المناهضة للشيوعية من الصمود، الا ان الاوضاع القائمة في السودان نفسه وفي المنطقة العربية جديرة بأن تعيد الى هذه النظرية صدقيتها المهدورة. وسقوط حجر الدومينو السوداني قد يجر الى سقوط احجار اخرى في السودان نفسه وفي المنطقة العربية حيث تبدي بعض الحركات الانفصالية جهوزية ملحوظة لاعلان دولها المستقلة.
فمع اقتراب موعد الانفصال السوداني المتوقع ارتفعت وتيرة الحراك العسكري في دارفور وخاصة في الاجزاء الجنوبية منه الاقرب الى حدود "دولة الجنوب" المرتقبة(2). ومع ان مليشيات دارفور المناهضة لحكومة الخرطوم لا ترفع شعار الانفصال، ولكن المثال الجنوبي سوف يشجع العناصر المتشددة منها على اتباع هذا الطريق. وكما في الجنوب والغرب، فكذلك في الشرق حيث نشأت خلال الخمسينات حركة محلية تركز على الهوية الخاصة لسكان شرق السودان وتحولت الى حركة تمرد مسلحة خلال العقد المنصرم. ولم تتوقف هذه الحركة الا مع توسط القيادة الاريترية مع المتمردين. ومن المرجح ان يؤدي انفصال جنوب السودان الى تشجيع هؤلاء المتمردين على اعادة النظر في اتفاق السلام الذي عقدوه مع حكومة الخرطوم خلال عام 2006، خاصة اذا تمكنوا من ضمان دعم اريتري لتحركهم(3). وقد لا يرتدي هذا التحرك الطابع الانفصالي الصريح، ولكنه قد يتجه الى المطالبة بفيديرالية سودانية هي اقرب في مضمونها الى الكونفيديرالية المترهلة والضعيفة.
الاثر المباشر لسقوط حجر الدومينو السوداني سوف يبرز حيث تتعرض الدولة الترابية (TERRITORIAL STATES) في المنطقة العربية الى المزيد من التحديات. ففي العراق، رسخت الحركة الكردية اقدامها الى درجة جعلتها تتخلى عن شعارها القديم "الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان" وتستبدله بالمطالبة بالحق في تقرير المصير كما شهدنا في المؤتمر الثالث عشر للحزب الديموقراطي الكردستاني، وكما فعل زعيم الحزب ورئيس حكومة كردستان مسعود البارازاني . لقد وعد البارزاني بطرح مسألة الحق في تقرير المصير بغرض "مناقشتها". ولكن النقاش هنا لن يتعرض الى مسألة امتلاك الاكراد هذا الحق، الذي هو في تقدير الزعامة الكردية غير قابل للنقاش، وانما الى صواب طرح هذا الحق في "الظرف الراهن" اي بالاحرى العمل من اجل انفصال كردستان عن العراق بمعايير "الواقعية السياسية وموازين القوى". اكثر من ذلك.لم يذهب الزعيم الكردي الى الوعد بالسير على طريق انفصال كردستان العراق فحسب ولكن ايضا الى وعد الجماعات الاخرى التي ترغب في الاقتداء بالمثال الكردي بتقديم العون لها ومساندتها حتى يتاح لها ان تحقق اهدافها(4).
وفي اليمن تتعرض الدولة الترابية الى ضغوط مماثلة. يطالب القائمون على "الحراك السلمي" في الجنوب بالحق في تقرير المصير. ويقدر زعماء الحراك سلفا ان الاستفتاء حول تقرير المصير سوف يقود حكما الى خيار انفصال الجنوب عن الشمال، او الى "فك الارتباط واستعادة الدولة المفقودة" كما يدعوه علي سالم البيض النائب السابق للرئيس اليمني(5). ان البعض من انصار الحزب الاشتراكي يؤكد ان الحزب يملك من التأييد في الشمال اكثر مما يملكه في الجنوب. هذا يعطي الحزب وانصار "الحراك السلمي" فرصة لتوسيع نطاق حراكهم بحيث يشمل سائر انحاء اليمن وللتغيير الديموقراطي اليمني كبديل يحقق لهم مطالبهم المعلنة مع الحفاظ على وحدة الدولة الترابية اليمنية. ولكن، لسبب غير واضح حتى هذا التاريخ، آثر زعماء الحراك التركيز على المطلب الانفصالي.
الى جانب "احجار الدومينو" هذه، هناك احجار دومينو اخرى في انحاء متفرقة من المنطقة العربية. وكل منها مرشح للسقوط كما سقط من قبل الحجر السوداني، وتحت وطأة الضغوط المتزايدة التي تعاني منها الدولة العربية الترابية، وبفعل عوامل مساعدة كثيرة تزيد من فاعلية هذه الضغوط وتحد من قابلية الدولة العربية على احتوائها وتجاوزها، وتسهل مرور المشاريع الانفصالية.
حركات الانفصال والعوامل المساعدة
تأتي العولمة في مقدم هذه العوامل المساعدة لخيار الانفصال او الاحرى تشظي الدولة الترابية، كما يقول جان-ماري غيهينو، النائب السابق لامين عام هيئة الامم المتحدة، في كتابه "نهاية الدولة القومية". ففي فصل بعنوان "لبننة العالم" يقول غيهينو ان النزوع الفئوي الذي مزق لبنان ودول شرق ووسط اوروبا اصاب المفهوم الاوروبي للقومية في الصميم، وان هذا النزوع بما فيه من "جاذبية ودفء للجماعات البشرية [الطائفية او الاثنية] ذات الطابع الاحادي البسيط" مهيأ للاستيلاء حتى على اكثر الديموقراطيات تقدما لانه يتطابق مع موجبات الحداثة والتقنيات المعولمة(6). من هذه الناحية فان العولمة لا تعود قوة دافعة في اتجاه اندماج الدول الترابية في منظومة عالمية، بمقدار ما تتحول الى عامل يغذي حركات التشطير والانفصال وتفكيك للدولة الترابية.
وفي المنطقة العربية تتغذى هذه الحركات ايضا من ظاهرتي العجز الديموقراطي وتفاقم المعضلات الاجتماعية مثل الفقر والبطالة. لقد رصد تقرير مبادرة الاصلاح في العالم العربي لعام 2010 هاتين الظاهرتين فوجد ان المنطقة استكملت شروط الانتقال الى الديموقراطية، ولكن من الناحية الشكلية فقط، اما من الناحية العملية فإن المنطقة لا تزال "... في حاجة ماسة لضمان الحريات السياسية والمدنية ولتعزيز المراقبة والمحاسبة ودور منظمات حقوق الانسان". كذلك لاحظ التقرير حاجة المنطقة الملحة والمتزايدة الى تطبيق اصلاح الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية بغرض تقديم فرص العمل للشباب والحد من الفقر ومن التفاوت الطبقي(7). المؤشرات السياسية والاجتماعية التي شهدناها خلال السنة الفائتة مثل الانتخابات النيابية البائسة التي جرت في بعض الدول العربية والتحركات الشعبية الواسعة ضد البطالة والازمات الاجتماعية تدل على ان هذه الازمات الى انسداد وليس الى انفتاح، الى تفاقم وليس الى حل.
ان الانفصال لا يحل هذه المشاكل. فحكومة جنوب السودان التي تقودها الحركة الشعبية لتحرير السودان لا تقدم نموذجا متقدما للحكم الديموقراطي او للاصلاح الاجتماعي بالمقارنة مع حكومة الخرطوم. كذلك فان قادة الحراك في جنوب اليمن لم يحققوا الرخاء لابناء المناطق الجنوبية من اليمن ولم يكونوا ارحم على المعارضين والمنافسين والمواطنين العاديين من حكومة صنعاء. ولكن الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتدهورة تتحول الى عوامل مساعدة للانفصالات اذا ما ترافقت مع عامل آخر يلعب دورا مهما في التأثير على عقول وافئدة المواطنين في الكيانات المرشحة للانفصال.
يتمثل هذا العامل الآخر بالثقافة السياسية السائدة في المجتمعات التي تنشط فيها الحركات الانفصالية. في المنطقة العربية تتعرض الدولة الترابية/الوستفالية الى تحديات كبرى. لقد كانت هذه الدولة مخلوقا محببا واثيرا لدى قوى كثيرة عندما كانت الحركة الاتحادية العربية في حال الصعود. كان الشغل الشاغل لهذه القوى اسباغ المشروعية على الدولة الترابية وتوطيد اركانها وتحصينها ضد اي حدث ينال من علو مقامها واتساع سلطانها. بيد ان الحرص الشديد على الدولة الترابية ما لبث ان تبدد عندما انحسر خطر المشاريع العربية الاقليمية، وعندما "انتهت او ماتت العروبة" كما يقول البعض. وانقلب الكثيرون من غلاة المدافعين عنها، الى مترصدين لسقطاتها وعثراتها، والى مبشرين بالخروج منها بل وبزوالها واضمحلالها.
مساعدات الخارج والداخل
اضافة الى العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تشكل خلفية مناسبة وعاملا مساعدا على تحقيق الانفصالات. يضيف البعض الاحداث التاريخية كعنصر مهم يسهل للحركات الانفصالية تحقيق اهدافها. فهذه الحركات تنشط عادة وتحقق اهدافها، كما يعتقد الاكاديمي انتوتي هـ. بيرتش الذي شغل منصب نائب رئيس الرابطة الدولية للعلوم السياسية، اذا ما توافر لها نموذجان من العوامل والاسباب. النموذج الاول يتعلق بتطور المجتمعات بصورة عامة، اما الثاني فهو يتصل بالحوافز التاريخية والخاصة التي تشحذ العصبيات الفئوية والذاتية للحركات الانفصالية. ويقدم بيرتش ثلاثة امثلة على النمط الثاني من الحوافز لتوضيح نظرته هذه: الهولوكوست، الذي يسر للحركة الصهيونية تحقيق اهدافها، اكتشاف النفط في اسكتلندا الذي شحذ العصبية القومية الاسكتلندية واضفى على المطلب الاستقلالي الاسكتلندي صدقية اقتصادية، "والثورة الصامته" بين الكنديين الفرانكوفونيين في كيبيك التي رفعت من شأنهم وقوت عزيمتهم في المطالبة بالانفصال عن كندا(8).
يرتكب بيرتش خطأ بديهيا عندما يقارن بين حركة الاستعمار والاستيطان الصهيونية من جهة، وحركتي المطالبة بانفصال اسكتلندا وكيبك الفرنسية، الا ان المقارنة التي يقوم بها مفيدة على كل حال لانها تفسح المجال امام المقارنة بين اثر العوامل الداخلية والذاتية على نجاح حركات الانفصال. لقد نجحت الحركة الصهيونية في اقامة كيان عبري على الارض العربية، فلماذا لم ينجح الاسكتلنديون والكيبيكيون الانفصاليون في تحقيق اهدافهم رغم توافر الاحداث التاريخية والذاتية المناسبة لتحقيق هذه الاهداف، كما يقول بيرتش؟ لماذا فشلت حركات انفصالية مثل ايتا في اسبانيا وجيش التحرير الايرلندي في ايرلندا الشمالية في تحقيق الانفصال عن الدولة الترابية؟
لئن فتشنا عن الفوارق الاساسية بين الصهيونية وبين حركتي الانفصال في اسبانيا وايرلندا الشمالية فاننا لن نجدها كلها بين العوامل الذاتية لدى كل من هذه الحركات، وانما سنجد في مقدمها الفرق بين حجم الدعم الخارجي الذي تلقته الصهيونية وحجم ونوعية الدعم الذي تلقته حركتا الانفصال في البلدين الاوروبيين. فهناك فرق كبير بين الدعم الذي قدمته ليبيا الى الايرلنديين ونوع الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة والدول الاوروبية الى الحركة الصهيونية. وهناك فرق كبير بين نظرة هذه الدول الاخيرة الى الدولة الترابية في العالم الاطلسي، بريطانية كانت ام اسبانية ام ايطالية، ونظرتها، من جهة اخرى، الى الدولة الترابية العربية حتى ولو كانت هذه الدولة حليفا مضمونا للغرب وركيزة من ركائزه في المنطقة.
لعب العامل الخارجي في المنطقة العربية، وفي غيرها من المناطق والاقاليم العالمية دورا بالغ الاهمية في ترسيم حجم الدولة الترابية وحدودها. ولقد لعب هذا العامل دورا حاسما في ترسيم حدود الدولة الترابية في المنطقة العربية منذ ان تم التفاهم الودي في بداية القرن العشرين بين الدول الكبرى في الغرب على اقتسام مناطق النفوذ في المنطقة العربية. وفي ايامنا الراهنة يشكل هذا العامل بالتأكيد عنصرا مساعدا على تحديد مصائر احجار الدومينو العربية. فمسيرة الانفصال في السودان بدأت، كما يقول بعض الاصدقاء السودانيين وكما تقول مراجع تاريخية منذ ان دفعت دولة اوروبية كبرى خلال صيف عام 1955 العسكريين الجنوبيين للتمرد على الحكومة المركزية في الخرطوم(9).
اذ يتضافر العامل الخارجي مع عوامل اقليمية ومحلية ذاتية مساعدة، فان الظروف ترجح ان تحقق الحركات الانفصالية في المنطقة العربية المزيد من المكاسب. ولن يتغير هذا الواقع الا اذا شهدت المنطقة نهضة اصلاحية حقيقية تشمل ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والدفاع الوطني وتستند الى تعاون متين وجدي بين الدول العربية. عندها يتحول مسار الدومينو من الترنح الى الاستقرار وتفقد حركات الانفصال مبرر استمرارها.
(1) "الحياة" 23/11/10. (2) "العرب اليوم" 9/11/10. (3) مهنا، عبد اللطيف. فلسطيني 6/9/9. (4) "النهار" 12/12/10. (5) البيض، علي سالم -"العرب القطرية" 15/3/10- مقابلة صحافية. (6) Guehenno, Jean-Marie. The End of the Nation-State (Minneapolis-USA: University of Minnesota Press, 2000). PP. 40-45. (7) aafaqcenter.com، حوارات - Cached. (8) Birch, Anthony H. Nationalism and National Integration (Abingdon-U.K.: Routledge, 2003) P. 72. (9) ar.wikipedia.org/wiki/ جنوب السودان - Cached - Similar.
(كاتب لبناني - مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية)
|