الجمعة, 14 يناير 2011 نيويورك - راغدة درغام
لعل المعارضة اللبنانية التي يقودها «حزب الله» ارتكبت خطأً استراتيجياً كبيراً عندما قررت التصعيد ضد رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري وإسقاط حكومته عقاباً له على عدم الخضوع لمطالبتها برفض القرار الظني المتوقع صدوره قريباً جداً عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. فهي أسقطت الحكومة في سعيها لإسقاط المحكمة، لكن ما فعلته أدّى الى تطويقها دولياً بصيانة قاطعة للمحكمة. تعمدت المعارضة إسقاط حكومة الحريري لتوجيه صفعة اليه والى الرئيس الأميركي باراك أوباما معاً، إذ أتى التوقيت قبيل اجتماعهما في البيت الأبيض الأربعاء الماضي، فأدى ذلك الى استياء أوباما وإيقاظه الى ضرورة التعمق في إفرازات سياساته التهادنية مع كل من سورية وإيران وانعكاساتها على لبنان. أتى التوقيت وكأنه إضافة الإهانة الى الجرح، لأن إدارة أوباما كانت في صدد إرسال سفيرها روبرت فورد الى دمشق، عندما ردَّت دمشق بإحراج أوباما، إلا ان فورد يتوجه الآن الى دمشق مُحمّلاً بمطالب صارمة ينقلها السفير الجديد من رئيسه الى الرئيس بشار الأسد. وابرز عناوين هذه المطالب يشمل أولاً التمسك بالمحكمة الدولية وضرورة الكف عن محاولات إلغائها أو رفض قراراتها، وثانياً، ضرورة توقف سورية عن تهريب الأسلحة الى «حزب الله» بانتهاك للقرارات الدولية، وأيضاً مسألة التعاون النووي بين سورية وإيران وكوريا الشمالية. وأخيراً، ربما من بين إفرازات الأخطاء الاستراتيجية إسقاط سورية و «حزب الله» تفاهماً كان أعرب فيه سعد الحريري عن استعداده لإجراءات تبعد حكومته عن تنفيذ القرار الظني، الذي تقول أوساط «حزب الله» انه سيوجه اتهام ارتكاب جريمة اغتيال الحريري الى عناصر في الحزب.
والآن، وبعدما انتقلت الجهود الديبلوماسية من الخانة السعودية – السورية الى الخانة السعودية – الفرنسية – الأميركية، ربما بمشاركة من مصر أو دول أخرى نافذة، أصبح ضرورياً لكل المعنيين التفكير في خلفيات وأسباب القرارات الخاطئة، لأن الخطأ الاستراتيجي تم ارتكابه عمداً لأسباب أخرى فائقة الأهمية والأولوية. أصبح ضرورياً أيضاً رسم ما يُعرف بـ «الخطة باء» للمعنيين في الحكومة والمعارضة بين رعاة التفاهمات. فسورية و «حزب الله» واضحان في اصرارهما على ضرب صدقية المحكمة الدولية ومنع لبنان من تنفيذ قراراتها، كما هما، ومعهما إيران، في غاية الوضوح في الإصرار على تمسك «حزب الله» بسلاحه ورفض طرحه على طاولة الحوار الوطني كما نص «اتفاق الدوحة».
يعتقد البعض ان استراتيجية سورية والمعارضة اللبنانية هي استراتيجية ذكية، فهي، بحسب هذا الرأي، استباقية للقرارات الاتهامية التي ستصدر عن المحكمة الدولية بتصنيفها محكمة «إسرائيلية وأميركية» بهدف نزع الصدقية عنها واقناع الرأي العام بأنها «مؤامرة ضد المقاومة».
إنما بحسب البعض الآخر، ان التصرف بمثل هذا القدر من الهلع يعرّي خوفاً له أسبابه لدى كل من «حزب الله» وسورية. فلقد لجأت سورية الى التحذير من عدم الاستقرار في لبنان إذا اخذت العدالة مجراها في المحكمة الدولية، ولجأ «حزب الله» الى التهديد بالسلاح وبالشارع إذا صدرت القرارات الظنية ضد أفراد أو عناصر منه.
خطأ سعد الحريري هو أنه وَثَق بأن كلاً من سورية و «حزب الله» كانا سيكتفيان باستعداده – وهو ابن الضحية – لتفريغ قرارات المحكمة الدولية من وسائل تنفيذها وحجب التعاون معها من طرف الحكومة اللبنانية، إنما بعد صدور القرار الظني الذي لا دور له فيه ولا سلطة عليه. فلقد اتضح له – بعدما قدّم ما طُلِب منه أو فُرِضَ عليه من تنازلات، عندما برّأ سورية سياسياً مسبقاً في حديثه الى «الشرق الأوسط» وقال ان شهود زور ضللوه – اتضح له لاحقاً ان تلك كانت خطوة أولى من سلسلة خطوات إركاع له. كان يفترض من جانبه أنه يقدّم الأقصى قبل صدور القرار الظني وبعده، وان ذلك هو المطلوب من «الطرف الآخر» للتعاون لضمان استقرار البلد والحؤول دون فتنة سنية – شيعية. لكنه اكتشف ان استراتيجية «الطرف الآخر» منذ البداية قامت على تكليفه إطلاق رصاصة قاضية ضد المحكمة الدولية قبل صدور أي قرار ظني عنها، وثم بعد استهلاكه وتحجيمه يصبح بديهياً التخلص منه واقالته من الحكومة.
ولذلك قالت مصادر مطلعة على أجوائه «انهم يريدون استكمال اغتيال رفيق الحريري» ويريدون «قتل القتيل والمسامحة معاً من دون أن يقدموا شيئاً... يريدون الغفران وإلغاء الأحكام وكل شيء آخر بلا تقديم أي مقابل من طرفهم»... ان ما يريدونه هو إخراج سعد الحريري من الحكومة بعد أن يسلمهم كل شيء، ابتداء بالتبرئة السياسية من دم أبيه، مروراً بإعلان إجراءات وقف التمويل اللبناني للمحكمة الدولية، وسحب القضاة اللبنانيين منها، أو رفض التعاون معها وتجريدها من الصدقية قبل – وليس بعد – صدور القرار الظني عنها.
باتت تلك الصورة واضحة حين قام ميشال عون بنعي «تسوية س-س» بعدما أبلغت دمشق المعارضة اللبنانية ما سمعته من السعودية، وفحواه ان سعد الحريري لن يتمكن من تلبية مطالب «قبل» وليس «بعد» القرار الظني للمحكمة. كان ذلك يوم توجّه الحريري للقاء أوباما في واشنطن بعدما كان اجتمع في نيويورك مع كل من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ومع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وقبل ذلك مع وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون.
المواقف الأميركية من المحكمة الدولية لم تتغيّر منذ ان استدركت الإدارة الأميركية أخيراً إفرازات عدم اهتمامها بالملف، انما تطورات هذا الأسبوع نقلت الاهتمام الأميركي الى مرتبة جديدة بدأت بهيلاري كلينتون وانتهت عند باراك أوباما. فالبيت الأبيض شدد على أهمية عمل المحكمة في إنهاء مرحلة الإفلات من العقاب وأصدر بياناً أكد على النقاط الآتية: التصميم على تحقيق الاستقرار والعدالة معاً في لبنان أثناء الفترة التي يتخللها التقلب الحكومي. التشديد على ضرورة احجام جميع الأطراف عن التهديد بالقوة أو استخدام القوة التي تطلق اللااستقرار. التمسك بسيادة لبنان واستقلاله ورفض التدخل الخارجي في شؤونه مع التشديد على الاستمرار بالشراكة البعيدة المدى بين الولايات المتحدة ولبنان. التأكيد على تنفيذ جميع قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. والإعلان عن «جهود موحدة» مع فرنسا والسعودية وأطراف دولية وإقليمية أساسية هدفها «الحفاظ على الهدوء في لبنان وضمان استمرار عمل المحكمة الدولية من دون عرقلة أو تدخل أطراف ثالثة».
ما أوضحته الإدارة الأميركية أيضاً هو ان سيادة واستقرار وأمن لبنان ليست قابلة للتفاوض، وان لا مجال لأية صفقة لإيقاف المحكمة الدولية عن تنفيذ ولايتها لأن تلك الولاية منوطة بها بموجب الفصل السابع الملزم لقرارات مجلس الأمن.
أوضحت الادارة الاميركية انها ليست ضد الجهود التي يبذلها السعوديون مع السوريين من أجل بناء علاقة إيجابية بين سورية ولبنان مبنية على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر. وأكدت أن أية جهود للتسوية في لبنان يجب أن يشارك فيها القادة اللبنانيون.
ما يجدر بإدارة باراك أوباما التأكد منه هو ألاّ يتقلص مستوى الاهتمام الأميركي بالملف اللبناني الخطير في هذا المنعطف. فهذه ليست مرحلة المغامرات الطائشة بل انها مرحلة مطالبة جميع المعنيين باحترام السيادة اللبنانية وعدم انتهاكها بأي شكل كان.
يجب أيضاً على إدارة اوباما ان تفكر جدياً في «خطة باء» إذا فشلت محاولاتها مع سورية للجم التصعيد والكف عن التهديد بإسقاط الاستقرار إذا لم يتم إسقاط المحكمة. فلدى إدارة أوباما أدوات عدة للنفوذ مع سورية. لقد استخدمت مسرعة ومسبقاً ورقة إعادة السفير الأميركي الى دمشق، منفذة بذلك أحد أهم مطالبها، انما يجب اليوم على إدارة أوباما ان توظّف تواجد السفير الأميركي من أجل إيصال رسالة واضحة في شأن لبنان توقف الأحلام والتكهنات بإعادة الدور السوري اليه من الباب الأمني بعدما تنجح سورية و «حزب الله» في نسف الاستقرار.
وبالتأكيد، على باراك أوباما ألاّ يترك جهود رعاية وادارة الجهود الجديدة لنظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي نصب لنفسه دور المدافع عن دمشق بعدما لعب أهم الأدوار في رفع العزلة عنها بلا مقابل ومسبقاً. فهو توجه الى لقائه مع أوباما لإقناعه بضرورة «جعل الانخراط الأميركي مع سورية أكبر كي يشجعها على القيام بالمزيد من الخطوات الإيجابية» في لبنان وليقنعه برفع الخطر عن بيع الطائرات لسورية، وفق ما قالت المصادر الفرنسية الى «الحياة».
فمصير لبنان يجب ألا يوضع في أيدي نيكولا ساركوزي ولا في يد أي رئيس دولة أخرى بمفرده. انه مسؤولية جماعية لأنه ضحية تدخلات جماعية من نوع أو آخر، أو إفراط في الثقة أو لعب الأوراق. وسواء سقطت التسوية أو سقطت الحكومة، يعرف الجميع ان إسقاط المحكمة ليس وارداً، وليت المدعي العام دانيال بلمار يكف عن التلاعب بأعصاب الناس ويقول بوضوح متى سيقدم القرار الظني. فهذه مرحلة أزمة عصيبة في لبنان ولا يجوز التلاعب لأنه حقاً قد يسقط الاستقرار.
انها مرحلة إعادة التمعّن بما هي مصلحة مَن في هذا المنعطف وما هي خطة «باء» في حال المفاجآت. الجميع يتأهب انما خطر اندلاع التفجير الأمني لا يبدو وشيكاً حتى الآن.
|