بقلم عمرو حمزاوي
هذه دعوة لنا كمواطنين بعدم إلقاء كامل المسؤولية السياسية لتفجير كنيسة القديسين وما سبقه من أعمال عنف ضد الأقباط المصريين على الحكومة وأجهزتها التنفيذية والأمنية. ففي مثل هذه المقاربة تجاهل خطير لمسؤولية المجتمع عن تصاعد التحريض الطائفي والتوترات الطائفية خلال الأعوام الأخيرة، وما أدى إليه من تحول البيئة المجتمعية في مصر إلى بيئة قابلة جزئيا لأعمال العنف ضد الأقباط وغير ممانعة للتمييز ضدهم.
فقد تركنا كمجتمع، والمسؤولية تقع هنا بالأساس على عاتق الغالبية المسلمة، ساحات واسعة، خاصة في مجالات الدعوة الدينية والإعلام التقليدي والحديث لفعل خطابات التحريض الطائفي، وسمحنا لها أن تصوغ اقتناعات وتفضيلات قطاعات معتبرة من المسلمين المصريين على نحو باعد في مرحلة أولى بين سياقات حياتهم اليومية وسياقات حياة الأقباط وصولا إلى الفصل شبه التام. ثم وفي مرحلة ثانية، رتبت خطابات التحريض الطائفي هذه بين الكثيرين من المسلمين المصريين تبلور تفضيل واضح في اتجاه قبول دعوات "مقاطعة الأقباط" والترويج لها (من شاكلة ما شاهدناه العام الماضي في الإسكندرية وغيرها من المدن المصرية من حملات شعبية رفعت شعار "قاطعوا بضائع النصارى")، بل صمت وعدم الاعتراض على أعمال العنف التي ترتكب بحقهم أو التمييز المستمر ضدهم. هل توقعت الغالبية المسلمة من الأقباط المصريين، ومع التحريض الطائفي ضدهم ومع كل النواقص الخطيرة الواردة على حرياتهم الدينية وحقوقهم السياسية وأمنهم الشخصي، أن يصبروا صامتين ومحتسبين على معاناتهم دون امتعاض أو رد؟ وهل انتظرت الغالبية المسلمة أن يمر تحريضها الطائفي دون خطاب طائفي معاكس بدأ بالتبلور في أوساط الأقباط وحرض ضد المسلمين أو "الضيوف المغتصبين" كما يشار إليهم في هذه الأوساط؟ وهل توقعنا كمجتمع أن يمر الانتقاص من المقدسات المسيحية من قبل أشباه الدعاة ومروجي خطابات التحريض دون انتقاص مضاد من المقدسات الإسلامية؟
المؤكد هو أن الغالبية المسلمة قد فشلت فشلا ذريعا في الاضطلاع بمهمتها المجتمعية في الحفاظ على، وتجديد دماء، قيم التنوع والتسامح والانفتاح على الآخر القبطي، وفي تحصين البيئة المجتمعية ضد التمييز وأعمال العنف الطائفي التي باتت خلال الأعوام الأخيرة في تصاعد مستمر. مثل هذا الوضع الداخلي الخطير لن يتغير الى الافضل طالما داومنا نحن على قصر المسؤولية عن تفجير كنيسة القديسين وغيره على الحكومة والأجهزة الرسمية وأعفينا المجتمع والغالبية المسلمة من المسؤولية. كما أن مجرد توجيه أصابع الاتهام إلى الحكومة والدعوة بعمومية بالغة إلى الديموقراطية والإصلاح السياسي كحلول سحرية لكل أزماتنا بما فيها الطائفية، وهو ما ذهبت إليه معظم قوى المعارضة، يدلل على قصور في الرؤية وخلل في المقاربة لا يريان في سياقات المجتمع إلا السياسة ولا يلمحان في خريطة الفاعلين المسؤولين إلا الحكومة السلطوية العاجزة.
إلا أن هذه دعوة أيضا للحكومة، أو لنقل للعقلاء داخلها وحولها، للامتناع عن اختزال تفجير كنيسة القديسين إلى مؤامرة خارجية وعمل إرهابي نفذته عناصر إرهابية غير مصرية تجتهد الأجهزة الأمنية اليوم لإلقاء القبض عليها والحيلولة بينها وبين القيام بأعمال عنف جديدة. فحتى إن كان التفجير بالفعل من تنفيذ عناصر خارجية (وهو ما لم يتأكد إلى لحظة كتابة هذا المقال) ما كان له أن يحدث، أو لغيره من أعمال العنف الطائفي أن تحدث، لولا أن البيئة المجتمعية في مصر، بل والبيئة القانونية والسياسية، قابلة لحدوثه. وهنا الخيط الناظم في ما خص ذاك الجزء من المسؤولية عن التحريض والعنف الطائفي الذي تتحمله الحكومة والأجهزة الرسمية.
فالثابت هو أن الحكومة لم تتحرك خلال الأعوام الأخيرة للحد من التمييز القانوني ضد الأقباط والذي يطول حرياتهم الدينية (بناء دور العبادة وصيانتها)، كما أنها لم تقم الكثير للتعقب القضائي الفعال لمرتكبي أعمال العنف ضد الأقباط. كذلك قبلت الحكومة عملا، ودون مبادرات حقيقية للتغيير، تطور بيئة سياسية تتسم بتهميش خطير للأقباط في المجالس التشريعية والأجهزة الإدارية والتنفيذية. وفي عدد النواب الأقباط المنتخبين في مجلس الشعب الجديد دليل بين على التهميش هذا. بل إن الحكومة وفي ظل محدودية فعلها الهادف إلى الحد من التمييز القانوني والتهميش السياسي للأقباط وغياب المبادرات الجادة، اختزلت التوترات الطائفية وأعمال العنف إلى مكونها الأمني وحاولت بأدواتها الأمنية المعهودة السيطرة عليها، وكانت النتيجة فشلا ذريعا وتراكما للتمييز ضد الأقباط حولّهم عمليا مواطنين من الدرجة الثانية.
المسؤولية عن العنف الطائفي والتمييز ضد الأقباط هي إذا مسؤولية مشتركة بين الغالبية المسلمة والحكومة، ولن نستطيع القضاء على الأمرين إلا بفعل مباشر ومنظم من قبل الطرفين المجتمعي والحكومي. في المدى القصير، يمكن للحكومة تغيير البيئة القانونية الى الأفضل من خلال إصدار قانون عادل وموحد لدور العبادة والتعقب القضائي السريع لمرتكبي أعمال العنف الطائفي. فلم يصدر إلى اليوم حكم قضائي نهائي واحد بشأن أعمال العنف هذه منذ كشح التسعينيات وإلى نجع حمادي مطلع 2010. في المدى القصير، يمكن الغالبية المسلمة أو لنقل للقطاعات بداخلها التي مازالت محصنة ضد التحريض الطائفي القيام سريعا بمبادرات أهلية تنتصر للأقباط وأمنهم وحرياتهم الدينية.
أما في المدى الطويل، فينبغي على الحكومة التدبر في السياسات والإجراءات التي تحد إن طبقت من التهميش السياسي للأقباط مثل إدخال الكوتا القبطية في البرلمان والمجالس المحلية. وفي المدى الطويل أيضا، ليس لنا إلا أن نعول على قدرة الغالبية المسلمة محاصرة خطابات التحريض الطائفي والابتعاد عنها بتجديد دماء التزامها التسامح والانفتاح على الآخر في ظل مواطنة مدنية تضمن، نصا وواقعا، الحقوق المتساوية بغض النظر عن الانتماء الديني. ولا يساورني أدنى شك بأن الغالبية المسلمة إن نجحت في تجديد التزامها بالتسامح والمواطنة المدنية ستجد العدد الأكبر من الأقباط المصريين في صفها ومعها وأمامها.
(باحث مصري في مركز كارنيغي للسلام)
|