فراس كيلاني عند الساعة التاسعة مساء رن هاتف علي الجوال، كان منهكاً بعد يوم طويل من المعارك للتصدي لقوات «فجر ليبيا» التي كانت تسعى لاقتحام بلدة براك التي تعتبر معقلاً لقبيلة المقارحة، لم يكن يتوقع في أقصى أحلامه أن يكون المتصل هو عبدالله السنوسي، اتضح لوجهاء المقارحة صباح اليوم التالي أن رئيس استخبارات القذافي السابق كان اتصل بأكثر من خمس عشرة شخصية من براك، وطلب منهم الحضور إلى طرابلس للاجتماع به والتوصل إلى اتفاق لوقف الاقتتال بين قبيلته والقوة الثالثة التابعة لـ «فجر ليبيا».
استخدام ورقة الرجل المعتقل في طرابلس أربك أعيان القبيلة ووجهاءها، إذ لا يزال السنوسي يحظى بمكانة كبيرة لدى غالبيتهم التي لم تعد تخفي تأييدها لـ «عملية الكرامة» التي أطلقها الفريق خليفة حفتر منتصف العام الماضي، رفضوا طلب السنوسي، لكن بعضهم ممن يوصفون بالمؤيدين لثورة السابع عشر من شباط ( فبراير) وافق على الذهاب إلى العاصمة والاجتماع بالرجل المتهم بأسوأ التهم التي وجهت لأعضاء النظام السابق.
ظلت بلدة براك الواقعة على بعد نحو ستمئة كيلومتر جنوب العاصمة طرابلس خارج المشهد السياسي الذي تلى مقتل القذافي، ورفض غالبية سكانها من المقارحة تأييد النظام الجديد، وقاومت بشراسة دخول قوات مصراتة إلى البلدة، على رغم سيطرة هذه القوات على قاعدة «براك الشاطئ»، إحدى أهم القواعد العسكرية في الجنوب الليبي، إضافة إلى إحكام قبضتهم على سبها عاصمة إقليم فزان في الجنوب التي لا تبعد سوى نحو ستين كيلومتراً عن براك.
يعود علي، أحد وجهاء المقارحة، والذي رفض الكشف عن اسمه كاملاً، بالزمن إلى الوراء قليلاً ليكشف أن السنوسي كان غادر برفقة سيف القذافي ومنصور ضو، طرابلس في الثاني والعشرين من آب (أغسطس) 2011 إلى مدينة بني وليد، حيث مكثوا ليوم واحد وتحركوا بعد ذلك إلى براك، ومنها إلى سبها للقاء العميد مسعود عبدالحفيظ الذي كان حينذاك أمين اللجنة الشعبية لشعبة سبها والحاكم العسكري للجنوب، وهناك حاول السنوسي ترتيب قوات لمواجهة مرتقبة في سبها، لكنه اكتشف أن الأمور خرجت عن السيطرة فعاد إلى براك واستقر فيها، بينما تركه منصور ضو ليلتحق بالقذافي في سرت ويؤسر هناك من جانب مقاتلي مصراتة.
ظل السنوسي في براك حتى مقتل القذافي، ليغادر بعد ذلك إلى الجزائر ومنها إلى موريتانيا، حيث تجمعه علاقات جيدة مع الرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز، وبعد أشهر عدة على إقامته غادر إلى المغرب لبضعة أيام، وحين حطت به طائرة العودة في نواكشوط في فجر 17 أيار (مايو) 2012 ألقي القبض عليه من جانب السلطات الموريتانية ووضع قيد الإقامة الجبرية مع عائلته، ليعلن بعد أربعة أشهر تسليمه رسمياً للنائب العام في طرابلس.
ويعتقد مقربون من السنوسي أن طرابلس عرضت مقابل رجل القذافي القوي مبلغاً كبيراً من المال، وهو ما دفع السلطات الموريتانية لتفضيل تسليمها إياه على تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت بحقه في 27 حزيران (يونيو) 2011 مذكرة توقيف دولية بتهمة ارتكاب جرائم قتل وتنكيل بحق مدنيين تشكل جرائم ضد الإنسانية.
ويشير علي إلى أن استخدام ورقة السنوسي للاتصال بالمقارحة حالياً عكس مخاوف «فجر ليبيا» من التقارب الكبير الذي بدأ يلوح في الأفق بين قبيلة المقارحة من جهة وقبيلتي الزنتان وورشفانة من جهة أخرى، على خلفية مواقف هذه القبائل من قوات «فجر ليبيا».
اعتمد العقيد معمر القذافي على المقارحة في شكل كبير خلال العقود الأربعة التي حكم فيها البلاد، وتعود جذور ثقته فيها إلى عبدالسلام جلود ابن القبيلة وعضو مجلس قيادة الثورة، والذي لطالما وصف بأنه الرجل الثاني في البلاد منذ انقلاب 1969. أدخل جلود أبناء جلدته إلى دوائر صنع القرار مبكراً مطلع السبعينات، وكان من بينهم عبدالله السنوسي الذي استطاع بحنكته وذكائه دخول قلب القذافي، وتم ترفيعه سريعاً خلافاً لأقرانه، وكانت أهم خطوة في مسار حياته المهنية هي اقترانه بشقيقة زوجة القذافي الثانية صفية بركات، وبعد حرب تشاد في الثمانينات، بدأ القذافي يستبعد عبدالسلام جلود تدريجاً حتى خرج من المشهد الأمني والسياسي في شكل نهائي عام 1992.
وعلى رغم أن جلود تحدث بعد انشقاقه عن نظام القذافي في آب 2011، وعن الكثير من الأسباب التي دفعت العقيد لاستبعاده، وحاول تقديم نفسه معارضاً لنهج رفيق دربه منذ مطلع الثمانينات، إلا أن مقربين من الرجل من بلدته براك يؤكدون أن العلاقة بين الرجلين ظلت على أحسن ما يرام على المستوى الشخصي والعائلي، ويرجعون سبب إقصائه من المشهد السياسي إلى نصائح خارجية للقذافي، ربما جاء أهمها من الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك، والتي أشارت عليه بضرورة التخلص من جلود باعتباره يمثل الوجه الأقبح للنظام دولياً كمسؤول عن اللجان الثورية السيئة الصيت واتهامه بالتورط في الكثير من مغامرات النظام الخارجية.
ومنذ ذاك الحين ورث عبدالله السنوسي نفوذ جلود ليس في دوائر صنع القرار فحسب، وإنما في أوساط قبيلة المقارحة التي حافظت على ولاء مطلق لنظام الجماهيرية بقيادة معمر القذافي. لكن، وعلى رغم مكانته الكبيرة لدى المقارحة عموماً، إلا أن غالبية وجهاء القبيلة رفضت تلبية مطلبه بالقدوم إلى طرابلس لاعتبارات عدة، إذ إن توقيت اتصاله بها مساء الثامن من نيسان (أبريل) الماضي تلى نهاراً حاسماً تصدى خلاله أبناء براك لما يعرف بالقوة الثالثة التابعة لـ «فجر ليبيا»، وكان يُتوقع أن تُخضِع هذه القوة البلدة بعد طول انتظار، وذلك بالنظر إلى اعتقالها العقيد محمد بن نايل أحد أهم قادة براك العسكريين قبل بضعة أيام فقط.
ويتحدر بن نايل (1941) من قرية قيرة قرب براك، وهي مسقط رأس قريبه السنوسي أيضاً، ضابط في الاستخبارات اعتمد القذافي عليه في عدد من المهام الخاصة، وتلصق به الكثير من التهم أبرزها محاولة اغتيال رئيس الوزراء التونسي الأسبق الهادي نويرة منتصف السبعينات والتي حكم على إثرها بالإعدام، وكان اعتقل في بداية عام 2012 من جانب إحدى الميليشيات في طرابلس لحوالى ستة أو سبعة أشهر وهرب من السجن. وعلى رغم اعتكافه في بلدته براك بعد ذلك، إلا أنه عاد ليعلن انضمامه إلى عملية «الكرامة» منذ انطلاقتها منتصف العام الماضي، وبرز دوره عسكرياً في المنطقة الغربية بخاصة في مناطق ورشفانة، وبعد ازدياد زخم العملية في ليبيا عموماً، عاد إلى إقليم فزان حيث أعاد ترتيب صفوف قواته وشن عملية عسكرية كبيرة ضد قوات «فجر ليبيا» في «قاعدة براك» نهاية شباط (فبراير) 2015، لكنه اختفى في إحدى المواجهات مطلع نيسان، لتُنشر صوره بعد ثلاثة أيام عبر وسائط الاتصال الاجتماعي معتقلاً لدى قوات «فجر ليبيا» وقد كتب على جبينه كلمة «مصراتة».
الاجتماع مع السنوسي
وصدقت توقعات وجهاء المقارحة الذين رفضوا طلب السنوسي لقاءه في طرابلس لاعتقادهم بأن الأمر يستهدف تحييدهم في الصراع الدائر في البلاد بين قوات «فجر ليبيا» وعملية «الكرامة» التي يقودها خليفة حفتر، إذ بعد اجتماع ضم إلى السنوسي بعض أعيان المقارحة ممن قبلوا الدعوة ومجموعة من أعيان مصراتة، في رعاية خالد الشريف وكيل وزارة الدفاع في حكومة المؤتمر الوطني المسؤول الأمني السابق في الجماعة الليبية المقاتلة، خرج المجتمعون باتفاق استنكره قادة المقارحة في براك واعتبروه في غير مصلحتهم، إذ نص في بعض بنوده على تسليم السلاح وإطلاق سراح «المختطفين» وتعيين مسؤول عسكري لقاعدة «براك الشاطئ» موال لقوات «فجر ليبيا»، إضافة إلى وقف أي هجمة من جانب الطرفين.
وكشف ما تلى ذلك مآرب لم تكن واضحة بدايةً، إذ فور مغادرة الوفد طرابلس توجه إلى الزنتان حيث اجتمع بالمجلس العسكري هناك وأطلعه على نتائج لقائه بالسنوسي و «فجر ليبيا»، وتمت إثارة قضية أسرى من مصراته اعتقلهم بن نايل ولمح خلال التحقيقات إلى أنه سلمهم إلى إحدى الكتائب في الزنتان. وأبلغ قادة الزنتان الوفد بأن بن نايل على علاقة حسنة بالعجمي العتري قائد كتيبة «أبو بكر الصديق»، وبعد اتصالهم به هاتفياً رفض الإقرار بما إذا كان يحتفظ بالأسرى الذين يعتقد أن بينهم شخصية مرموقة من مصراتة من عدمه، وعاد الوفد إلى براك خالي الوفاض.
ويحيط الغموض بشخصية العجمي العتري الذي يؤكد مقربون منه أنه لا تجمعه علاقة تحالف ببن نايل، وأن الأخير الذي يشتهر بقدرة كبيرة على المناورة ربما يكون قد سعى لتضليل «فجر ليبيا» بالتلميح إلى أن المعتقلين الذين بحوزته موجدون في الزنتان. لكن الإشارة إلى العتري ربما تطرح تساؤلات في شأن قضية أخرى أهم، تتعلق بسيف الإسلام القذافي الذي اعتقله العتري في 2011، خلال محاولته الهرب من بلدة براك إلى النيجر.
كان سيف الذي غادر طرابلس مع السنوسي استقر لبعض الوقت في مدينة بني وليد معقل قبيلة ورفلة التي يتحدر منها القذاذفة، والتي كانت تتعرض لهجوم كبيرة من قوات مصراتة، واضطر لاحقاً لتركها في قافلة من السيارات أثارت شبهات الـ «ناتو» الذي استهدفها حين توقفت قرب وادي زمزم، ووفق مصدر مقرب من الرجل قضى كثر في هذه الضربة، ونجا سيف بسبب نزوله من السيارة وابتعاده قليلاً عن القافلة قبل دقائق من الغارة، وخلفت الحادثة إصابات طفيفة في أصابع سيف نتجت عن محاولة إنقاذ رفاقه الذين احترقت بهم السيارات.
ومنذ ذاك الحين بات هاجس ابن القذافي النجاة بنفسه، فاختبأ لبضعة أيام في سبها قبل أن يغادرها إلى براك، وهناك بدأ السنوسي ترتيب محاولة إخراجه إلى النيجر عبر مهرّب تم الاتفاق معه من دون إبلاغه بأن ابن القذافي سيكون ضمن المجموعة، لكن سيف آثر المغادرة مع مهرب آخر اتضح لاحقاً أنه على علاقة بكتيبة العجمي العتري التي كانت تنتشر بعض قواتها قرب بلدة أوباري، فأبلغها بتفاصيل العملية، وكان الاعتقاد بأن السنوسي هو من يحاول الهرب باعتبار أن التحرك سيتم من بلدة براك، وتم الاتفاق على مكمن اعتقل فيه سيف الإسلام والمجموعة التي كانت برفقته، وبعد نحو عام تم الإفراج عن غالبية المجموعة التي تعيش حالياً في براك ومنهم خالد عمر إمبية وإمراجع عبدالصمد، فيما لا يعرف ما إذا كان سيف لا يزال موجوداً في الزنتان أم تم نقله إلى مكان آخر.
يقول علي أن اتصال السنوسي بوجهاء المقارحة، واللقاء الذي عقد على إثره، وما تلاه من كلمة للرجل بعد أيام في جلسة محاكمته أشار فيها إلى تعرض بلدته براك للقصف بالطائرات والدبابات، كل ذلك انعكس هدوءاً على جبهات القتال من دون أي تنفيذ لبنود الاتفاق على الإطلاق، مشيراً إلى أن القوة الثالثة التابعة لـ «فجر ليبيا» أقامت بوابات تفتيش شخصي على مداخل البلدة وصعدت موجة الاعتقالات لشبانها بعد إدراكها فشل مسعاها.
على رغم تماسك جبهة براك في مواجهة قوات «فجر ليبيا» أقله حتى الآن، إلا أن الجميع هناك يقر بأن اعتقال بن نايل خلف فراغاً كبيراً في أرض المعركة، وهو ما استدعى من الفريق خليفة حفتر الذي بات القائد الأعلى للجيش الوطني الليبي توجيه دعوة إلى القيادة العسكرية في براك لزيارته في المرج. ويقول أحد قادة الوفد: «إن الهدف من الزيارة ليس واضحاً بدقة، هل هو لفتح جبهات جديدة أم للتهدئة وإعادة ترتيب الأوراق؟»، ويشير إلى أن «ثمة شخصيات عسكرية مرموقة من كوادر نظام القذافي يمكن الاستعانة بها قريباً بهدف استقطاب غالبية عسكريي الجنوب ومكوناته الاجتماعية».
اضطر وفد قيادة براك للتوجه إلى الزنتان للانتقال من مطارها إلى الشرق الليبي، وهو المطار المدني الوحيد الذي تسيطر عليه قوات موالية لحفتر غرب البلاد، وخلال فترة انتظاره الطائرة التي تأخرت لأيام نتيجة قصف قوات «فجر ليبيا» المطار، أجرى الوفد لقاءات مطولة مع القيادات العسكرية في الزنتان، بشقيها: المجلس العسكري وقيادة الجيش في المنطقة الغربية، وهو ما أدى إلى فتح المزيد من قنوات التواصل بين الطرفين.
وكانت قوات «فجر ليبيا» استطاعت فرض سيطرتها على غالبية الشمال الغربي للبلاد منذ العام الماضي، وقامت بطرد مقاتلي الزنتان من العاصمة طرابلس وأحكمت سيطرتها على المعابر الحدودية مع تونس، كما استطاعت السيطرة على غالبية بلدات قبيلة ورشفانة غرب العاصمة وجنوب غربها، وواصلت هجومها حتى مشارف الزنتان جنوباً، فيما تسيطر على كامل الحدود شرقاً وصولاً إلى سرت على بعد 400 كيلومتر، والتي باتت تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية منذ ثلاثة أشهر.
إلا أن قوات الزنتان مدعومة بمقاتلي قبيلة ورشفانة استعادت زمام المبادرة مجدداً، وردت قوات «فجر ليبيا» من مناطق عدة، بخاصة في جنوب العاصمة وجنوب غربها، وتعمل جاهدة للوصول إلى ساحل المتوسط على بعد نحو خمسة وعشرين كيلومتراً غرب طرابلس لقطع طرق الإمداد والتواصل بين قوات «فجر ليبيا» من معبر راس غدير مع تونس وصولاً إلى العاصمة، وبالفعل باتت على بعد نحو خمسة عشر كيلومتراً جنوب الساحل بسيطرتها على بلدة العزيزة وتقدمها إلى بلدة الزهراء التابعتين لورشفانة.
اتبع قادة الزنتان مبكراً التكتيك الذي تحاول استخدامه «فجر ليبيا» اليوم مع المقارحة، إذ عملوا على استقطاب وإشراك مكونات المناطق كافة المتضررة من إطاحة نظام الجماهيرية في تصديها لهجوم قوات «فجر ليبيا»، وفي هذا الإطار أطلقت الزنتان سراح العقيد عمر تنتوش الذي كان معتقلاً في سجونها منذ نحو ثلاثة أعوام، وكلفته قيادة ما يسمى القوات المساندة في منطقة ورشفانة التي يتحدر منها تنتوش، وبالفعل استطاع الرجل تحقيق تقدم ملحوظ على المحاور الجنوبية الغربية للعاصمة.
وتعتبر ورشفانة إحدى أكبر القبائل الليبية، وهجر عشرات الآلاف من أبنائها بعد سيطرة قوات «فجر ليبيا» على أراضيها، كما دمر وأحرق الكثير من منازلها على يد هذه القوات. ويقول العقيد تنتوش رداً على سؤال بخصوص ما يثيره تقدم قواته من مخاوف الانتقام من مؤيدي «فجر ليبيا» في مدن كالزاوية وطرابلس، أن العملية العسكرية الحالية تتركز على تحرير مناطق ورشفانة فقط، وأن معركة تحرير طرابلس ستحدد من جانب قيادة الجيش الليبي لاحقاً، وستكون القوة المساندة جزءاً من الخطة التي يعدها الجيش.
وفي ما بدا أنه محاولة متأخرة من مصراتة لقطع الطريق على اتفاق ورشفانة الزنتان، أرسلت المدينة التي يشكل مقاتلوها العمود الفقري لقوات «فجر ليبيا»، وفداً لمقابلة أعيان ورشفانة وممثليها منتصف نيسان الماضي، إلا أن محاولته لم تساهم في تغيير التحالفات على الأرض، بخاصة أن الكفة العسكرية بدأت تميل لمصلحة القوة المساندة التي يقودها العقيد تنتوش، بتغطية ودعم من الجيش الليبي الموالي لحفتر.
وتضغط قوات ورشفانة والزنتان، بشقيها العسكري والقوة المساندة لتطويق طرابلس عبر المحاور الجنوبية والغربية، وترك الشرق مفتوحاً لمغادرة دروع مصراتة المدينة تحت ضغط الحصار، وذلك لتجنيب العاصمة معركة قد تسفر عن تدمير كبير في بنيتها التحتية. ويشدد آمر المنطقة الغربية في الجيش الليبي العقيد إدريس مادي على أن «الخطة لاستعادة السيطرة على طرابلس لم تستكمل بعد»، وحذر من أن «أي تحرك في هذا الاتجاه سيكون خارجاً على الشرعية ولن تتم تغطيته من قبل القيادة العسكرية».
الخلاف بين المكونات العسكرية
لكن ما تجنب العقيد مادي الحديث عنه هو الخلاف بين المكونات العسكرية في الزنتان، والذي ازدادت حدته أخيراً وإن لم يخرج للإعلام بعد، إذ فيما تصر القيادة العسكرية للجيش الليبي على ضرورة انصياع القوى كافة للأوامر، والخطط التي توضع من جانب القيادة العامة، لا يزال المجلس العسكري في الزنتان يرفض الانضواء في شكل كامل ضمن هرمية القيادة الجديدة، ويكاد يكون التنسيق بين الطرفين مقتصراً على غرفة إدارة العمليات فقط.
وفي معرض تقويمه إمكانات القوى الإسلامية التي تسيطر على العاصمة، يوضح مادي أن المقاتلين الذين يتحصنون فيها ينتمون إلى مجموعات عدة تتفق في الهدف لكنها تختلف في العقيدة، فمن وجهة نظره «الإخوان» هم غير الجماعة الليبية المقاتلة، وهذه غير «أنصار الشريعة» أو دعاة «الدولة الإسلامية»، ويرى أن هذه التنظيمات بعضها عدو البعض الآخر، ولا تشترك حالياً إلا في ضرورة الدفاع عن النفس، ويعول على رفض أبناء العاصمة هذه التنظيمات كعنصر قوة لمصلحة الجيش في معركة العاصمة.
إلا أن عمر القويري، وزير الإعلام في الحكومة الانتقالية الذي يعتبر من أشد معارضي مصراتة، على رغم تحدره منها، عبّر عن خشية كبيرة من معركة طرابلس واحتمالاتها بالقول أن أكثر من ثلاثة آلاف ممن وصفهم بالإرهابيين يتحصنون حالياً في العاصمة تحضيراً لمعركتهم الأخيرة على حد تعبيره، وأن جزءاً كبيراً منهم وصل من بنغازي بعد استعادة الجيش السيطرة على غالبية المدينة هناك.
ويقر مادي بأن العمود الفقري لـ «فجر ليبيا» الذي يضم كل القوى التي تسيطر على طرابلس هم دروع مصراتة، ويرى أن تحكيم العقل يوجب على مصراتة سحب قواتها سريعاً، لأن ثمن الانسحاب لاحقاً مع تقدم الجيش والقوى المساندة سيكون كبيراً جداً، نتيجة ازدياد الاحتقان من جانب الكثير من مكونات المجتمع الليبي على خلفية دور مصراتة كرأس حربة في المآل الذي آل إليه حال البلاد بعد انتهاء حكم العقيد معمر القذافي.
لكن، وبناء على تحركات «فجر ليبيا» أخيراً، لا يبدو أن قادتها بصدد إعادة حساباتهم والتفكير بسحب قواتهم من طرابلس والتوصل إلى اتفاق قد يجنب البلاد المزيد من الكوارث، إذ يعكس توظيف ورقة السنوسي لتحييد المقارحة، والاتصال بورشفانة على رغم موقفها الصريح والمعلن من النظام الذي تلى انتهاء حكم الجماهيرية، حجم التعويل الكبير على تغيير ما قد يساهم في ترجيح الكفة لمصلحتهم عسكرياً.
ولا يخفي الفريق خليفة حفتر مساعيه لاستقطاب كل مكونات المجتمع الليبي، بخاصة ضباط وصف ضباط جيش القذافي الذين يقدر تعدادهم بعشرات الآلاف، والذين غادر قسم كبير منهم البلاد عقب مقتل العقيد، ومن بقي في ليبيا التزم بيته منذ ذلك الحين، وليس سراً أن هؤلاء خضعوا لتربية عقائدية صارمة ضمن أدبيات الجماهيرية، كان حفتر وفقها مثالاً على «القائد الخائن» على خلفية تجربته في حرب تشاد.
ويضع علي وأصدقاؤه من المقارحة إشارة استفهام كبيرة بخصوص تأخر صدور قانون العفو وطي صفحة الماضي فعلياً، وهو القانون الذي كان يتوقع صدوره قبل نحو شهرين عن مجلس نواب طبرق، إذ ترى قطاعات كبيرة من المجتمع الليبي أن هذه هي الخطوة الوحيدة التي بالإمكان أن تقطع الطريق على محاولات «فجر ليبيا» مواصلة اللعب على التناقضات القائمة في المجتمع الليبي، وإقناع الآلاف من أبناء المؤسسة العسكرية بالالتحاق بمشروع الدولة الوليدة من رحم الكارثة الليبية.
* صحافي في الخدمة العالمية لـ «بي بي سي»
|