القاهرة - أحمد رحيم حين أراد الرئيس المصري السابق حسني مبارك تهدئة الغضب العارم الذي اجتاح بلاده في «جمعة الغضب» في 28 كانون الثاني (يناير) 2011، أقال على الفور وزير الداخلية السابق حبيب العادلي، بعدما أيقن أن للممارسات الأمنية القمعية دوراً مهماً في تحريك الثورة ضد النظام، ظهر في اختيار ذكرى «عيد الشرطة» في 25 كانون الثاني (يناير) لبدء احتجاج انتهى بإطاحة مبارك نفسه.
وبعد انتفاضة 30 حزيران (يونيو) 2013 التي أطاحت جماعة «الإخوان المسلمين» من الحكم، عاد الحديث مجدداً عن «تجاوزات» أمنية، لكن على استحياء، تأثراً بـ «الحرب ضد الإرهاب» التي يخوضها الجيش والشرطة ضد جماعات مسلحة في سيناء و «خلايا نوعية» في العاصمة ومحافظات الدلتا، وسقط فيها مئات القتلى من قوات الأمن.
لكن مع تواتر التقارير عن عمليات تعذيب ومعاملات مسيئة للمواطنين، فُتح الملف مجدداً، وسط مؤشرات على توافر إرادة سياسية لتغيير هذا النمط، كي لا يُحمّل نظام الحكم الجديد أعباء تلك الانتهاكات.
ويُنظر في الموروث المصري إلى جهاز الشرطة على أنه النظام، فـ «الحكومة» هي التسمية الشعبية للشرطة، وكثير من الأجهزة الخدمية التي تتعامل مع قطاع واسع من الجمهور يتبع وزارة الداخلية.
وفتحت زيارة من المجلس القومي لحقوق الإنسان التابع للدولة إلى سجن عمومي الجدل في شأن إمكان تحقيق استقرار أمني مع مراعاة حقوق الإنسان للمواطنين. وزار وفد من المجلس لمدة ساعة ونصف الساعة سجن «أبو زعبل» والتقى 4 سجناء كانوا اشتكوا إلى النائب العام تعرضهم للضرب والاعتداء والإهانة والتعذيب.
وقال المجلس إنه رصد آثار ضرب على أحد السجناء، وتبيّن لأعضائه وجود حال من الذعر والخوف الشديد لدى السجناء الذين استمع إليهم، وأكدوا تعرضهم إلى تهديد بطريقة غير مباشرة من القائمين على إدارة السجن في حال الإفصاح عما يحدث.
وخاطب المجلس النائب العام هشام بركات للتحقيق في ملاحظات عدة أبداها في رسالة وجهها إليه، ومنها وجود آثار ضربٍ على ظهر أحد المحتجزين، وعدم ملاءمة الظروف المعيشية داخل غرف التأديب المعايير الدنيا لأماكن الاحتجاز.
وبعد تلك الزيارة، وجه النائب العام محققي النيابة إلى تنظيم حملات تفتيش على السجون وأماكن الاحتجاز في أقسام الشرطة، وفاجأ أعضاء النيابة العامة أقساماً وسجوناً في محافظات عدة بتفتيش تم خلاله رصد تجاوزات، منها ادعاءات بحدوث تعذيب لسجناء، وتكديس السجناء في غرف صغيرة، وعدم ملاءمة تلك الغرف الحياة الآدمية. وأمر النائب العام بالتحقيق في تلك الاتهامات.
وكان لافتاً قرار النائب العام إحالة ضابطي شرطة على محكمة الجنايات بتهمة «التعذيب حتى الموت» في قضية مقتل المحامي كريم حمدي داخل قسم شرطة المطرية قبل أسابيع، بعدما أوقف على خلفية تظاهرات مؤيدة لجماعة «الإخوان». والضابطان المحالان على محكمة الجنايات يعملان في جهاز الأمن الوطني، وريث مباحث أمن الدولة، وهو جهاز معلوماتي بالأساس.
وطالما نال ضباط مباحث أمن الدولة حصانة ضد المساءلة عن أي تجاوزات تُرتكب أثناء عملهم، لكن مثول الضابطين أمام محكمة الجنايات أظهر تغييراً بدأ يطرأ في هذا الشأن. كما أُحيل ضابط في الشرطة قبل أيام على محكمة الجنايات أيضاً بتهمة قتل الناشطة في حزب «التحالف الشعبي» شيماء الصباغ أثناء مسيرة بالورود قرب ميدان التحرير في ذكرى الثورة.
واجتمع الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل أيام مع وزير الداخلية اللواء مجدي عبدالغفار. وقال بيان لرئاسة الجمهورية إن السيسي أكد لوزير الداخلية «ضرورة مراعاة حقوق الإنسان، وحسن معاملة المواطنين، مع تحقيق الاستقرار الأمني».
ووسط تلك الأجواء، نشرت وزارة الداخلية أخيراً وسائل عدة للاتصال بمسؤوليها، لتلقي الشكاوى من أي تجاوز أثناء التعامل في المؤسسات الأمنية، ما أظهر رغبة في تغيير نمط تعامل الشرطة الذي طالما اشتكى منه المواطنون.
وقال لـ «الحياة» عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان جورج إسحاق إن المجلس سيكثّف في الفترة المقبلة زيارات أعضائه للسجون وأماكن الاحتجاز في أقسام الشرطة «للتأكد من حماية حقوق المحتجزين والمسجونين وحسن معاملتهم وفقاً للدستور والقانون».
واعتبر أن «ما حدث في الأيام الماضية، وما سيتبعه من إجراءات، هو نتيجة زيارة وفد المجلس لسجن أبو زعبل… طلبنا زيارة أماكن أخرى وسنزورها. ونحن مصرون على الاستمرار في هذا النهج». وأوضح أن المجلس طلب زيارة 4 سجون أخرى و10 أقسام شرطة، لتفقد أماكن الاحتجاز فيها.
لكن طلب المجلس زيارة أماكن الاحتجاز يجب أن يتضمن، وفقاً للقانون، الجهة التي يرغب بتفقدها، ما يمنح القائمين عليها فرصة لتلافي أي ملاحظات قد يُسجلها أعضاء الوفد.
وقال إسحاق إن «هذا الأمر يمثل مشكلة تواجه أعضاء المجلس، لذلك تقدمنا بطلب تعديل تشريعي إلى لجنة التعديل التشريعي في مجلس الوزراء، من أجل إدخال تعديلات في قانون المجلس القومي لحقوق الإنسان تقضي بالسماح لأعضاء المجلس بزيارة أي سجن أو مكان احتجاز بمجرد الإخطار». وأضاف: «أن هذا التعديل لو أُقر لن نكون ملزمين بتقديم طلب للزيارة وانتظار الموافقة عليه… إخطار مصلحة السجون أو وزارة الداخلية يمكن أن يتم ونحن على باب السجن، ما سيمكننا من رصد الواقع».
وأشار إلى أن المجلس «أطلق رسالة تُعد ارتكازاً لما ينبغي أن تكون عليه حال حقوق الإنسان. تحدثنا عن فكرة رعاية المسجونين وتحسين أماكن الاحتجاز في الشرطة. نحن لا نرضى بما يحدث للناس في الشوارع».
وقال مصدر في وزارة الداخلية لـ «الحياة» إن «الوزارة دائماً تسعى إلى تحسين الأحوال المعيشية في أماكن الاحتجاز، لكن هذا الأمر يتطلب موارد ضخمة في ظل زيارة أعداد السجناء». وأوضح أنه «يجري العمل على إنشاء سجون جديدة لتقليل أعداد السجناء في السجون الحالية، وتلك السجون بُنيت بما يُحقق معدلات عالية من تحسين معيشة السجناء».
ولفت إلى أن «وزارة الداخلية تُجري تحقيقات داخلية في أي تجاوزات يرتكبها ضباطها، ولا تتورع عن تقديم أي معلومات لأجهزة التحقيق خارجها، والدليل مثول ضباط أمام محاكم الجنايات في أي تجاوزات يرتكبونها تقتضي المحاكمة الجنائية»، مضيفاً: «أن أي تجاوز يحدث هو تصرف فردي وليس نهجاً، والتحقيقات الداخلية في أي جهاز أمني مع أفراده، لا يُكشف عنها، إلا في إطار ضيق».
لكن إسحاق لا يعتبر التجاوزات «تصرفات فردية». وقال: «حين تتحدث مع أي وزير للداخلية يقول هذا تصرف شخصي، ولما تتكاثر التصرفات الفردية تصير ثقافة... هذه الثقافة تتغير حين تُقدم المتجاوزين إلى النيابة العامة لتحاسبهم على أخطائهم. هذه الثقافة ستتغير لكن الموضوع يحتاج إلى وقت». وأشار إلى أن المجلس يعمل على «إعداد حملة كبرى لمكافحة العنف والتعذيب، واقتراح استراتيجية متكاملة تشمل جميع عناصر الإصلاح التشريعي والتعليمي والثقافي والديني في هذا الشأن». |