موناليزا فريحة لعقود كان الجنرال قاسم سليماني اليد الخفية والغامضة للعمليات السرية الايرانية حول العالم. اليوم، ها هو في كل مكان. على "تويتر" و"فايسبوك" تنتشر له "صورة" يصافح نيل أرمسترونغ على سطح القمر، وأخرى داخل ليموزين الرئيس الاميركي جون ف. كينيدي في دالاس، في ذلك الـ22 من تشرين الثاني 1963. في العالم الافتراضي، يسافر الحاج قاسم عبر الزمن. وفي عالم الواقع، يتصدر المشهد من اليمن الى سوريا ولبنان، مروراً بجبهته العراقية الساخنة.الخصم اللدود لواشنطن يحارب في خندق واحد مع الاميركيين عدوا مشتركاً. ألقابه كثيرة. هو "القائد الظل" لمجلة "نيويوركر" الاميركية، و"فارس الظلام" لمجلة "فورين بوليسي"، و"مستر فيكس ات" الايراني لـ"ويكلي ستاندارد" وهو ايضاً "الحاج قاسم" بين المقربين منه. وأخيرا وليس آخرا هو "سوبرماني" لمدوّنة كارل ريماركس.
مهماته كألقابه، كثيرة وربما أكثر، ولعل آخرها حضوره القوي في الهجوم الذي بدأته "القوات العراقية" مبدئياً لاستعادة تكريت من "الدولة الاسلامية"، كخطوة أولى في اتجاه التقدم شمالاً لطرد المتشددين من الموصل واعادة ترسيم الحدود العراقية التي محاها تنظيم أبو بكر البغدادي.
بغطرسة، تدعي طهران أنها تحكم ثلاث عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت. واذا كانت تستطيع اضافة رابعة اليها بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء في 20 كانون الثاني الماضي، يعتبر سليماني الوجه الايراني الابرز لهذا النفوذ المتزايد للجمهورية الاسلامية في المنطقة.
يثير الدور البارز لايران عموما، ولسليماني تحديدا، في المواجهة مع "الدولة الاسلامية" بغطاء جوي أميركي كثيرا من التساؤلات. ففي معايير مسؤولين عسكريين واستخباريين أميركيين كبار، يفترض أن سليماني عدو لدود أنشأ شبكة من العملاء تمتد من "حزب الله" الى الميليشيات الشيعية في العراق. وهو بحساباتهم مسؤول عما يعادل 20 في المئة من الخسائر البشرية الاميركية في العراق، وذلك عبر ما سمته واشنطن "العبوات الخارقة" التي كانت تستخدمها الميليشيات الشيعية لاستهداف الاليات الاميركية المدرعة وقتل من هم على متنها. هذا اضافة الى الصواريخ الايرانية الصنع وقذائف الهاون التي كانت تسقط على المنطقة الخضراء في بغداد. وفي ذروة العنف ضد الاميركيين في العراق، كتب قائد القوات الاميركية في العراق الجنرال ديفيد بترايوس أن سليماني "شر حقيقي"، استنادا الى "النيويورك تايمس".
ومع ذلك، أبدت واشنطن مرارا ارتياحها الى الدور الايراني الراهن في العراق، على رغم التبعات الخطيرة لتدخل ايراني مباشر وواضح في مناطق سنية.
سوريا قبل العراق، كان لسليماني، ولا يزال، دور بارز في صمود نظام الرئيس السوري وتقويض قدرات المعارضة . في نظره يمثل انقاذ الاسد مسألة "كبرياء" على حد قول مسؤول عراقي ينقل عنه ان "الايرانيين سيقومون بما في وسعهم لانقاذه.... نحن لسنا كالاميركيين. لا نتخلى عن أصدقائنا".
عام 2013، أبلغ مسؤول دفاعي أميركي "النيويوركر" أن سليماني بدأ يسافر بكثرة الى دمشق لإدارة التدخل الايراني مباشرة في الحرب، علماً أن نقطة التحول كانت في نيسان من ذلك العام، بعدما سيطرت المعارضة السورية على بلدة القصير. وتفيد تقارير أن سليماني اتصل في تلك الايام مباشرة بالامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، طالبا منه ارسال أكثر من ألفي مقاتل. ويقول المسؤول السابق في "السي آي إي" جون ماغواير إن "عملية القصير كلها من تدبير سليماني... كانت نصرا كبيرا له".
هذا الدور البارز لسليماني في سوريا لم يحظ بدعاية كبيرة، وظلّ بعيداً من الاضواء، وقت كان تأثير طهران واضحاً في مجريات الحرب، الامر الذي يثير تساؤلات عما اذا كانت الدعاية الراهنة لدور هذا الرجل محاولة أميركية لتلميع صورته أم جزءاً من سياسة ايرانية لجعله بطل المواجهة مع أبو بكر البغدادي. "خارق الذكاء" قائد "فيلق القدس" في السابعة والخمسين، قصير القامة، رمادي الشعر، مشذب اللحية. له ثلاثة ابناء وبنتان. لا يحمل شهادة جامعية، الا أن مسؤولاً عراقياً عرفه عن كثب وصفه بأنه "استراتيجي خارق الذكاء الى درجة الدهاء". وعن اساليبه في العمل قال إنها تشمل دفع الاموال للسياسيين والترهيب اذا اقتضت الحاجة، وصولا الى القتل خياراً أخيراً.
على رغم الطبيعة الشرسة لمهماته، يعتبره الايرانيون بطل حرب كامل الاوصاف، في اشارة الى دوره في الحرب الايرانية - العراقية (1980-1988) التي كان فيها قائدا لكتيبة وهو لا يزال في العشرينات. وفي اطلالة له في طهران عام 2013، وصف نفسه بأنه "الجندي الاصغر".
يستمد الحاج قاسم قوته خصوصاً من علاقته الوثيقة مع مرشد الجمهورية الاسلامية آية الله علي خامنئي الذي وصفه مرة بأنه "الشهيد الحي للثورة". وهو من أشد المؤيدين للمحافظين في ايران.وفي ذروة الاحتجاجات الطالبية عام 1999، وقع مع قادة آخرين في الحرس الثوري "الباسدران" رسالة تحذر الرئيس الايراني محمد خاتمي من أنه اذا لم يضع حداً للانتفاضة، قد يتولى الجيش خلعه من منصبه. وفي حينه، تولت قوى الامن قمع المتظاهرين، وأعادت الكرّة بعد ذلك بعشر سنين، خلال الثورة الخضراء. تنسيق مع واشنطن على رغم قطع العلاقات بين واشنطن وطهران منذ 1979، لم تكن علاقات سليماني بواشنطن دائما قاطعة.فقد نظم اجتماعات سرية بين ديبلوماسيين أميركيين وايرانيين في جنيف بعد هجمات 11 ايلول 2001 لمواجهة "طالبان"، العدو المشترك في حينه.
ويقول السفير الأميركي سابقاً في بغداد ريان كروكر في حديث صحافي إن سليماني أبلغ مفاوضاً من الامم المتحدة عام 2002 أنه"بعد 11 ايلول، أعتقد أنه حان الوقت لنعيد التفكير في علاقتنا مع الاميركيين". ويضيف: "كنا قريبين جدا"، لكن الوضع تبدل بعدما أدرج الرئيس الاميركي السابق جورج بوش ايران في" محور الشر"، لافتاً الى أن "كلمة واحدة في خطاب واحد غيرت مجرى التاريخ". ومذذاك، بدأت العلاقات بين الجانبين تنتقل من سيئ الى أسوأ.
وبعد الغزو الاميركي للعراق، كان يحلو لسليماني، استناداً الى بعض الروايات ان يسخر من الاميركيين. ففي صيف 2006 خلال الحرب بين اسرائيل و"حزب الله"، انحسر العنف في بغداد. وعندما انتهت الحرب في لبنان، نقل الصحافي ديكستر فيلكينز عن مسؤول عراقي أن سليماني بعث برسالة الى القيادة الاميركية مفادها: "آمل أن تكونوا استمتعتم بالسلام والهدوء في بغداد...كنت منشغلاً في بيروت".
المفاوضات النووية بين الغرب وطهران بدّلت أمورا كثيرة على ما يبدو. وما يحصل بين الجانبين في العراق قد لا يكون الا البداية. فوزير الخارجية الاميركي سابقاً جيمس بايكر صرح لشبكة "أن بي سي" الاميركية للتلفزيون أخيرا أن ايران "حليف طبيعي للولايات المتحدة". ولم يستبعد احتمال أن تكون واشنطن وطهران تتفاوضان سراً قبل بدء سليماني جلسات التصوير.
|