الخميس, 06 يناير 2011 رغيد الصلح *
عندما ضربت يد العنف كنيسة سيدة النجاة في بغداد، أثار هذا العمل الإرهابي إدانات واسعة في المنطقة العربية. هذه الإدانات وردود الفعل لم تكن قوية كفاية لكي تضع حداً للعنف الذي مورس ضد المسيحيين في المشرق العربي، فتكرر حادث العنف البربري مرة أخرى ضد كنيسة القديسين في الإسكندرية. وعندما تصاعدت الاستعدادات لإعلان انفصال جنوب السودان عن شماله، أعرب الكثير من القيادات العربية عن مشاعر الأسى والحزن على تفكك أكبر دولة عربية. فالأكبر هو الأفضل عند الكثيرين منهم.
حتى لا نضع الظاهرتين في سلة واحدة تماماً، لا بد من الإشارة الى أن العدوان على المسيحيين لا يرضي إلا فئة ضئيلة من منفذيه ومن يقف وراءهم، أما مشروع فصل جنوب السودان عن شماله فهو يلقى ترحيباً ملحوظاً لدى أوساط سودانية وعربية ودولية. لكن على رغم هذا الترحيب، فان سلبيات الانفصال لا تخفى على أحد، وإلا كيف نفسر حرص قادة الجنوب على تحميل قادة الشمال مسؤولية الانفصال، وكيف نفسر إصرارهم على أنهم أبرياء من دم السودان الواحد؟
في المنطقة العربية كثيرون يسألون: هل تتكرر هذه الأحداث؟ هل يستمر مسلسل العنف الديني والطائفي في حصد ضحاياه وفي إغراق حق الإنسان العربي في الحياة بشلالات الدماء؟ هل تطلق النشوة الانفصالية السودانية موجة من الانفصالات الجديدة في المنطقة العربية؟ هل تزج هذه الظواهر سكان المنطقة في المزيد من الحروب والقتل والدمار؟ وهل هناك من وسيلة للحد من هذه الظواهر أو للتخفيف من حدتها أو اندفاعها على الأقل؟
يشعر العديد من المعنيين بالقضايا العامة في المنطقة العربية أن الحلول الترقيعية لهذه المعضلات لا تنفع، وانه إذا لجأت النخب الحاكمة السياسية في المنطقة الى حلول من هذا النوع فإنها سوف تخرج من النافذة لكي تعود بقوة اكبر من الباب. وينصح الكثيرون من أهل الخبرة بمعالجة هذه الأوضاع المتردية عبر تحقيق الإصلاح الديموقراطي الشامل الذي يمس حياة المواطنين على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإتماماً لهذه الغاية فإن من المناسب، بل من الملح مراجعة بعض المفاهيم العامة المنتشرة في المنطقة. وفي مقدمة هذه المفاهيم التي تستحق المراجعة، المفهوم الأوروبي الشائع للدولة القومية الذي تأخذ به أغلب النخب الحاكمة والمضادة في بلادنا. ويشدد هذا المفهوم على أن لكل قومية دولة، وفي كل دولة قومية واحدة فقط. وإذ تتطابق هذه الفكرة مع مفهوم الدولة الترابية ومع الاعتقاد بأن هذه الدولة هي المحطة الأخيرة في تطور الكيانات السياسية في العالم فإنها تقف، كما قال المؤرخ النروجي البارز كريستيان لو لانج، وراء الكثير من الحروب والدمار التي تتعرض إليها الإنسانية. إن الكثير من هذه الحروب ليس موجهاً ضد الدولة القومية ولكن ضد قومية معينة تستأثر بهذه الدولة وبمنافعها وتترك الآخرين على قارعة الطريق.
البديل الأصوب لهذه الدولة هو الدولة المتعددة القوميات. هذه الدولة ليست «بدعة مستوردة» بل هي تطابق تركيب مجتمعات المنطقة التعددي الطابع وتنسجم مع تاريخها البعيد والقريب، ومع المطالب والمشاريع السياسية التي نادى بها العرب سواء في المرحلة العثمانية أم في مرحلة الاستعمار الأوروبي أم في مراحل الاستقلال. والدولة المتعددة القوميات تنسجم مع حقائق العصر حيث أن في العالم اليوم آلاف القوميات، أما عدد الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة فلا يتجاوز 194 دولة. كذلك فان فكرة الدولة المتعددة القوميات ليست نظرة مجردة، بل هي واقع حي معمول به في العديد من دول العالم مثل الصين والهند وبريطانيا وكندا.
فالصين هي، كما يحدد دستورها، دولة موحدة ومتعددة القوميات إذ تضم 56 منها. من بين هذه القوميات تعد قومية هان الأكبر عدداً، حيث أن أفرادها يمثلون ما يقارب 84 في المئة من سكان البلاد. ويستند هذا التحديد، وفقاً لما جاء في الكتاب الأبيض الذي أصدرته القيادة الصينية حول مسألة القوميات والأقليات المجتمعية الى ثلاثة أسس هي التاريخ الطويل للتعدد القومي في البلاد، والروح الوطنية التي جمعت هذه القوميات والأقليات في النضال ضد الغزو الأجنبي، ونمط توزع السكان إذ تتمركز بعض القوميات والأقليات في مناطق محددة.
وحفاظاً على الطابع الموحد للصين، فقد التزمت السلطات المركزية بإعطاء أقاليم الحكم الذاتي صلاحيات واسعة منها انتخاب مجالس محلية والتمتع بوضع لوائح الحكم المحلي وفقاً للخصائص القومية والفئوية، وسمحت لهذه الأقاليم باستخدام وتطوير اللغة القومية المحكية بل وساهمت هي نفسها، أي السلطات المركزية، في تطوير 28 لغة قومية تستخدم في أقاليم الحكم الذاتي. وسمحت بكين لسلطات الأقاليم بممارسة شعائرها الدينية كما يحدث في التيبت وفي إقليم شنغيانغ ذي الأقلية الدينية المسلمة. فضلاً عن هذا وذاك، فان السلطات المركزية تسمح لأقاليم الحكم الذاتي بحريات واسعة على الصعيد الاقتصادي بما في ذلك إقامة علاقات تجارية وثيقة مع بيوتات أجنبية على أن يحصل هذا تحت رقابة الدولة.
فضلاً عن احترام السلطات المركزية للحريات والصلاحيات الممنوحة لأقاليم الحكم الذاتي، فان حكومة بكين تعتمد سياسة التحيز الإيجابي لمصلحة هذه الأقاليم، وبخاصة تلك التي تشكو من التخلف الاقتصادي والاجتماعي بغرض مساعدتها على اللحاق بالمناطق المتقدمة في البلاد. في هذا السياق أنشأت الدولة الصينية عام 1992 «صندوق تنمية الأقليات القومية». وبفضل المشاريع التي نفذتها مؤسسات مركزية لمساعدة أقاليم الحكم الذاتي، فقد حققت هذه الأقاليم بين عامي 1994 و2003 معدلات في التنمية تفوق معدل التنمية الوطني البالغ 9 في المئة تقريباً بنقطة واحدة.
كما تعتبر الصين نفسها دولة متعددة القوميات، فان البريطانيين ينظرون الى بلادهم بمثل هذا المنظار. هذا ما يؤكدونه من خلال المقارنة مع فرنسا التي تعتبر نموذجاً للدولة الأحادية القومية. ولقد اعتبرت مسألة الحجاب كنموذج على الفارق بين الدولتين. فبينما منعت فرنسا ارتداء الحجاب في العديد من الأماكن والتجمعات وجعلت تضيّق على النساء المسلمات المحجبات، اتبعت بريطانيا نهجاً مخالفاً. إن أكثرية البريطانيين لا تبدي تعاطفاً خاصاً مع الرموز الدينية وبخاصة غير المسيحية، إلا أنهم، من جهة أخرى، يحترمون التنوع إذا لم ينل من المبادئ الديموقراطية التي تعتبر عنواناً للحياة العامة في بريطانيا. من هذا المنطلق تعامل البريطانيون مع مسألة الحجاب بعقلية مختلفة عن عقلية النخبة الحاكمة في فرنسا وسمحوا للمسلمات بحرية ارتدائه حتى خلال عملهن في مؤسسات الدولة مثل الشرطة والتعليم. وبفضل هذه النظرة السليمة والسياسة الحكيمة تمكنت بريطانيا من احتواء موجات التعصب والتخفيف من حدتها، بين سائر الفئات الدينية والقومية التي يتكون منها الشعب.
قد يخشى البعض على تماسك المنطقة وهويتها العربية فيما لو أقرت دول المنطقة مفهوم الدول المتعددة القوميات واعتمدته أساساً في التعامل مع الفئات المتنوعة التي تتكون منها مجتمعاتها. إلا أن هذه المخاوف لن يكون لها مبرر كبير عندما يدرس أهل القرار هذا المفهوم بدقة، ويتابعون تطبيقاته في الدول الأخرى ويعملون على استنباط الدروس المناسبة منها. فتماسك المنطقة سوف يترسخ متى بدأ أفرادها في ذوق طعم الكرامة والرفاه والمشاركة في الحياة العامة، وعندما تذهب الى الأبد سياسة الاستعلاء القومي أو الديني أو المذهبي أو الاجتماعي التي تمارسها الأكثريات والأقليات على حد سواء. ولسوف تصان هوية المنطقة بمقدار ما يفيد عرب المنطقة البالغ عددهم ما يقارب 200 مليون، أي ما يزيد على ثلثي سكان المنطقة من دروس التجربة الصينية وغيرها من التجارب المماثلة. إن هذه التجارب تؤكد أنه على الأغلبيات ألا تعتبر حجمها العددي والنوعي مسوغاً للتمتع بالامتيازات على حساب القوميات والمكونات المجتمعية الأخرى، بل على العكس أن تجد في هذا الحجم حافزاً لتقديم التضحيات والتنازلات الجزيلة الى هذه الفئات من أجل المحافظة على عروبة المنطقة وتماسكها والوحدة الجغرافية لدولها.
* كاتب لبناني
|