الخميس ٢٨ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ١٢, ٢٠١٤
المصدر : جريدة الحياة
ليبيا
«الجماهيرية» على أبواب التحول إلى «إمارة»... وإسلاميوها كانوا جاهزين لخلافة القذافي
فراس كيلاني  
مرت ثلاثة أعوام على مقتل العقيد معمر القذافي، يومها عمت الاحتفالات غالبية مدن البلاد، ورفعت لافتات الشكر لكل من ساهم من دول العالم في إسقاط نظام الجماهيرية، وعلى الأخص قطر وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية. كانت الآمال بالانتقال إلى نظام ديموقراطي عارمة، ولم يتوقف الليبيون عند الكثير من العقبات والإشكاليات التي برزت مبكراً في عمر «الثورة»، وكانت تؤشر إلى أخطار مقبلة ستعترض انتقال البلاد من الديكتاتورية التي استمرت لأربعة عقود، إلى الدولة المنشودة.

خلال الأسابيع القليلة الماضية، دخلت ليبيا عملياً مرحلة الحرب الأهلية في كل من طرابلس وبنغازي، عنوانها الأبرز صراع على السلطة، يشكل في جزء منه انعكاساً لحرب بالوكالة بين أجندات عربية متصارعة، وذلك على خلفية دور التيارات الإسلامية في رسم مستقبل الدول التي شهدت انتفاضات ساهمت في إسقاط الأنظمة في بلدانها. وبالتزامن مع هذا الصراع تزداد الأخطار من نشاط التنظيمات المتشددة التي أتاح لها غياب السلطة المركزية فرصة كبيرة للتوسع وفرض سيطرتها وأجنداتها على مدن ليبية عدة، إلى درجة دفعت وزير الخارجية الليبي محمد عبدالعزيز إلى التحذير قبل أيام من أن «البلاد في طريقها لتصبح إمارة إسلامية».

لا يمكن فهم الوضع الليبي وتفسيره اليوم بناء على معطيات المشهد الحالي، فجذور ما يجري تمتد في جزء منها إلى أحداث كثيرة تم السكوت عنها منذ بدء انتفاضة السابع عشر من شباط ( فبراير)، وساهمت لاحقاً في نكء جراح قبلية وجهوية كان يعتقد أنها التأمت منذ وقت طويل، أضيف إليها بعدٌ أيديولوجي لم يعهده المجتمع الليبي يوماً.

 

حكاية لم تروَ

حالة التصديق البدهية لصحة الانتهاكات التي ارتكبتها قوات القذافي في الأيام الأولى للانتفاضة كانت مبررة بالنظر إلى أربعة عقود من القتل والتعذيب والاختفاء القسري وغيرها من انتهاكات طاولت حتى غرف نوم القذافي السرية، لكن التسليم بذلك حجب الكثير من الحقائق في شأن ما جرى خلال عام 2011، ليس بسبب صعوبة توثيقها، وإنما لكونها تلقي الضوء على تفاصيل كان يمكنها أن تغير مسار الأحداث فيما لو كشفت مبكراً.

مع إعلان «انتصار الثورة الليبية» في 23 تشرين الأول (أكتوبر) كانت تقديرات مصادر شبه رسمية قريبة من المجلس الوطني الانتقالي تشير إلى أن أعداد القتلى تناهز الخمسين ألفاً، وبعد إحصاءات رسمية قامت بها وزارة رعاية أسر الشهداء والمفقودين واستمرت لعامين اتضح أن عدد القتلى يبلغ 5517 فقط.

أُثبتت أحداث كثيرة تم التحقق منها لاحقاً أن وسائل الإعلام وقعت فريسة تضليل كبير من جانب وسائل الاتصال الاجتماعي، وبعضها ساهم في إنتاج وتضخيم الحدث، بطريقة اتضح أنها كانت تستهدف استصدار قرار دولي من مجلس الأمن وهو ما حصل سريعاً، إذ بعد عشرة أيام على اندلاع أحداث بنغازي، دان مجلس الأمن في القرار 1970 «الانتهاكات الجسيمة والمنهجية لحقوق الإنسان»، واعتبر أنها «ترقى إلى مرتبة جرائم ضد الإنسانية»، وقرر إحالتها تحت الفصل السابع إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.

كان القرار مبنياً على تقارير إعلامية تفيد حينها بسقوط حوالى ألفي قتيل في بنغازي وطرابلس، وتبين لاحقاً عدم صحة هذه الأرقام، كما تبين عدم صحة الكثير من الصور والمعلومات التي كانت تبث سريعاً من جانب الناشطين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لتعرض على الفور من جانب الفضائيات الإخبارية العربية.

ويؤكد ديبلوماسي ليبي كان شاهداً على الأحداث منذ أيامها الأولى في بنغازي، أن «حجم التضخيم فاق كل التوقعات، ليس فقط في ما يتعلق بأعداد القتلى، وإنما أيضاً في مسائل أخرى كتلك التي ركزت على استقدام القذافي مقاتلين مرتزقة أفارقة».

وتؤكد «مجموعة الأزمات الدولية» هذه المسألة في تقرير أعد عقب انتهاء الثورة بقليل، ويشير إلى أن «قضية المرتزقة تم تضخيمها وخلطها بالقضية المختلفة والأوسع لشبكات الهجرة غير المشروعة... كان كثرٌ منهم لا يملكون أذونات إقامة أو تأشيرات دخول ولا أية ممتلكات ولا حتى في بعض الحالات جوازات سفر وكان يتم اعتقالهم على هذا الأساس فقط».

أدرك معمر القذافي مبكراً أهمية هذه المسألة، خصوصاً بعد خطابه في 22 شباط، وخطاب ابنه سيف الإسلام قبله بيومين، وما تسببا به من انشقاقات كبيرة، وتأجيج مشاعر الغضب عند الليبيين عموماً، وعمل بمشورة السياسي الفلسطيني محمد دحلان الذي كان يتمتع بعلاقة جيدة جداً مع القذافي الأب.

يقول مصدر فلسطيني إن دحلان «نصح القذافي بضرورة دعوة الإعلاميين للمجيء إلى طرابلس، وإعطائهم الفرصة للوقوف على حقيقة ما يجري بلا قيود»، إضافة إلى بعض النصائح الأخرى التي قد تساهم في تخفيف حدة الاحتقان في الشارع الليبي كتوزيع مساعدات على شكل هبات نقدية وهو ما تم بالفعل.

وجه القذافي دعوة إلى حوالى مئة وخمسين صحافياً من مؤسسات غربية وبعض المؤسسات العربية لطرابلس في الخامس والعشرين من شباط 2011، ونزلوا في فندق «ريكسوس» الفاخر الذي كان مقر إقامة بعض مساعدي دحلان في تلك الفترة أيضاً، وبالفعل كانت أولى الانطباعات التي خرج بها الصحافيون هي عدم صحة الأنباء التي تحدثت عن قصف طيران القذافي أي مواقع في العاصمة أو بالقرب منها، وذلك وفق ما تبين من زيارات رتبها المتحدث باسم النظام موسى إبراهيم للصحافيين إلى هذه المواقع. لكن المسألة الأهم التي كان نظام القذافي يحاول تثبيتها في تلك الفترة أن انسحابه من المدن، تحديداً من بنغازي ومصراته والزاوية، كان بقرار منه «للحؤول دون إراقة دماء الليبيين» على ما كان يؤكد موسى إبراهيم.

وبصرف النظر عن السبب الذي أورده إبراهيم، فإن الحقائق تؤكد أن القذافي بالفعل أعطى الأوامر لكتائبه للانسحاب خارج المدن، تخوفاً على ما يبدو من احتمال تأجيج حدة الاحتجاجات ضده إن هو ضرب بيد من حديد لاستعادة السيطرة عليها، كما كان حصل في كل من تونس ومصر. وفي خطوة نادرة سمح القذافي للإعلاميين الدخول إلى مدينة الزاوية التي كانت تحت سيطرة المعارضة، وتبعد حوالى خمسين كيلومتراً غرب طرابلس. وبعد يومين بدأت قوات القذافي عملية لم تستغرق سوى ساعات قليلة لاستعادة المدينة، كما نجح في استعادة راس لانوف، واستطاع التقدم في شكل كبير على أكثر من محور لاستعادة مدينة مصراتة.

كانت ليبيا تحت المجهر الدولي آنذاك، ولعبت الدوحة وباريس الدور الأبرز في حشد الجهد الديبلوماسي ضد القذافي الذي غيّر خطابه في ذلك الحين وبدا أنه بدأ يستعيد المبادرة.

استخدمت ذريعة حشد القذافي قواته لاستعادة مدينة بنغازي لاستصدار قرار ثان من مجلس الأمن الدولي، صدر بعد شهر بالتمام والكمال على بدء الانتفاضة (في السابع عشر من آذار/ مارس) تحت الرقم 1973، وسمح «باتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية المدنيين والمناطق الآهلة بالسكان المدنيين المعرضين لخطر الهجمات»، وتم بموجب هذا القرار فرض حظر على جميع الرحلات الجوية في المجال الجوي للجماهيرية.

وظلت ملابسات صدور هذا القرار ملتبسة، خصوصاً لجهة تمريره من جانب روسيا، إذ اتضح لاحقاً، وفق ما كشف رئيس المكتب التنفيذي في المجلس الوطني الانتقالي الليبي محمد جبريل، أن مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة عبدالرحمن شلقم «أوهم» الأمين العام للأمم المتحدة بأن القذافي هو من يريد تمرير هذا القرار، في الوقت الذي كان يعمل سراً على صياغته بالتنسيق مع مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن سوزان رايس ونواف سلام مندوب لبنان الذي كان عضواً في مجلس الأمن آنذاك. وأعلن شلقم في كلمة مؤثرة انشقاقه عن النظام خلال كلمته في الجلسة المخصصة لتمرير القرار، ما اضطر روسيا والصين للاكتفاء بالامتناع عن التصويت، وهو ما ندمت موسكو عليه وفق ما أكده أكثر من مسؤول بينهم الرئيس فلاديمير بوتين، نظراً إلى استخدام القرار مبرراً لضرب كل مراكز قوة القذافي لا لإقامة فرض حظر للطيران فقط.

يقول أحد قادة كتائب القذافي الذين فروا إلى تونس بعد انتهاء المعارك، إنهم أدركوا خسارتهم الحرب بعد إطلاق الـ «ناتو» الصاروخ الأول في اتجاه ليبيا في التاسع عشر من آذار 2011، لكن الحقائق تشير إلى أنهم ظلوا يقاتلون بعقيدة وولاء كبيرين للقذافي، على رغم أنه كان بإمكانهم إلقاء سلاحهم والانضمام إلى المعارضة بعد فقدان القذافي منظومة الطيران الحربي، خصوصاً في المناطق الشرقية النائية عند جبهة أجدابيا التي لم تستطع قوات المعارضة اقتحامها، والتي ظلت تقاوم لأشهر وبشراسة منقطعة النظير حتى سقوط طرابلس في آب (أغسطس).

استدعى فشل قوات المجلس الوطني الانتقالي الليبي في إلحاق الهزيمة بقوات القذافي، على رغم قصف الـ «ناتو» المركز لها، مبادرات لإيجاد مخارج لهذا الاستعصاء، كادت تحول دون السيناريو الكارثي الذي ستجد البلاد نفسها عالقة فيه لاحقاً، تحدث عنها محمود جبريل باستفاضة في حواره مع غسان شربل في صحيفة «الحياة»، ربما كان أهمها ما تقدم بها مبعوث القذافي صالح بشير لفرنسا في بداية تموز (يوليو) 2011، وتنص على تخلي القذافي عن السلطة شريطة عدم مقاضاته، على أن يظل في ليبيا بحماية فرنسية، وأن تجرى الانتخابات ويترشح لها أحد القيادات من المجلس الانتقالي، وفي الدورة الثانية يسمح لسيف الإسلام القذافي بالترشّح. وكذلك مبادرة مبعوث الأمم المتحدة آنذاك عبد الإله الخطيب لتشكيل مجلس رئاسي مؤلف من شخصين من المجلس الوطني الانتقالي وشخصين من النظام من التكنوقراط، ويتفق الأربعة على تعيين شخص خامس رئيساً موقتا للبلاد على أن يتنحى القذافي من دون أن يحاكم.

في خضم كل هذه التطورات وما تلاها، كان ثمة نشاط من نوع آخر يدور خلف المشهد العام الذي سيطرت عليه أخبار المعارك والقتال، وهو محاولة تيارات الإسلام السياسي على اختلاف مشاربها، تعزيز قوتها تمهيداً للمرحلة المقبلة التي ستلي انهيار نظام القذافي.

الحضور الجهادي في الانتفاضة الليبية كان مستتراً في الأيام الأولى في مدن الشرق، خصوصاً بنغازي ودرنة، وعلى رغم مشاركة الكثير من الجهاديين الذين كان قد تم الإفراج عنهم من سجون القذافي في انتفاضة المدينتين، إلا أنه سرعان ما تبدلت أولوياتهم، بخاصة بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي فرض حظر للطيران، وبالتالي استبعاد خطر عودة كتائب القذافي لاستعادة السيطرة على المناطق التي فقد السيطرة عليها، فعملوا على تأسيس كتائب تتبنى الفكر السلفي الجهادي، ككتيبة «راف الله السحاتي» و «السابع عشر من فبراير».

ويؤكد أحد مساعدي رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي مصطفى عبدالجليل في تلك الفترة أن «الكثير من الأسلحة والمخصصات التي كانت تذهب إلى هذين التنظيمين لم تكن تستخدم في معارك ضد قوات القذافي»، ويعتقد أن ذلك سبب أساسي في عدم قدرة قوات المعارضة على تحقيق أية إنجازات عسكرية غرباً عند جبهة أجدابيا طيلة أشهر.

ويوضح الرجل الذي تبوأ منصباً كبيراً في السلك الديبلوماسي الليبي ورفض الكشف عن اسمه، أن «كل العتاد الحربي الذي استطاعت هذه التنظيمات جمعه كان يتم تخزينه في معسكرات بالقرب من بنغازي وفي مدينة درنة التي لم يتنبه الإعلام لما كان يجري فيها في ذلك الحين»، وأنه على رغم استشعار قيادة المجلس الوطني الانتقالي الليبي خطر هذه المسألة مبكراً، إلا أنها «آثرت عدم الخوض فيها لما قد يثيره ذلك من مخاوف لدى الغرب قد تدفعه إلى إعادة النظر في إسقاط نظام العقيد».

ولم تسعَ هذه التنظيمات طيلة فترة الحرب التي انتهت بمقتل القذافي إلى فرض أي حضور علني في المناطق التي كانت تنشط فيها، وكان أقصى ما عملت عليه هو محاولة التسلل إلى الشارع الليبي عبر تقديم خدمات إنسانية، من دون محاولة فرض أية أفكار تلفت الأنظار الى مشروعها. وبالفعل، لم يبدِ الشارع الليبي في تلك الفترة أية مخاوف من نشاط هذه الكتائب، وظل يتطلع في غالبيته لمتابعة سير المعارك على أمل النجاح بإسقاط نظام الجماهيرية.

يقول رجل الأعمال الليبي رائد النيهوم عن تلك الفترة إن «سكان بنغازي لم تكن لديهم أية مخاوف على هذا الصعيد، فالمجتمع الليبي معروف باعتدال إسلامه ويرفض الأفكار المتطرفة».

كان لسان حال رائد يعكس المزاج العام في المنطقة الشرقية عموماً في فترة الانتفاضة الليبية، خصوصاً في ما يتعلق باحتمال سيطرة تيارات الإسلام السياسي على مكاسب الثورة حال سقوط النظام، لكن هذه الحقيقة تغفل أن ليبيا كانت من أوائل الدول العربية التي شهدت نمو الظاهرة الجهادية مطلع ثمانينات القرن الماضي.

كان عوض الزواوي أسس حركة عام 1982 اعتمدت الجهاد المسلح لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي، ونفذ محاولات انقلابية عدة باءت بالفشل، واضطر أعضاؤها بغالبيتهم لمغادرة البلاد، حيث عززوا مهاراتهم القتالية في أفغانستان من دون أن يعلنوا الانضمام إلى تنظيم «القاعدة». وعاد هؤلاء بمعظمهم إلى ليبيا مطلع التسعينات وأعلنوا عام 1995 ولادة التنظيم رسمياً باسم «الجماعة الليبية المقاتلة»، حيث استأنفوا العمل المسلح ضد النظام الذي وجه لهم ضربات مؤلمة، فأوقفوا عملياتهم عام 1998، وأعلنوا وقف إطلاق النار رسمياً عام 2000، وبدأوا عملية مصالحة مع النظام ضمن ما بات يعرف بمشروع سيف الإسلام القذافي «ليبيا الغد» انتهت بما بات يعرف بـ «المراجعات» التي تلاها الإفراج عن الكثير من أعضاء الجماعة.

في المقابل، كان تنظيم «الإخوان المسلمين» قد بدأ النشاط في ليبيا تحت حكم الملك إدريس السنوسي مطلع الخمسينات من القرن الماضي، لكن هذا النشاط توقف عقب الانقلاب على الملكية من جانب مجموعة من الضباط الليبيين بقيادة العقيد معمر القذافي، واعتقلت قيادتهم عام 1973، وأعلنوا حل الجماعة عبر وسائل الإعلام، لكنهم عادوا إلى العمل سرياً هذه المرة حيث هرب الكثير منهم إلى الولايات المتحدة الأميركية وأصدروا من هناك مجلة «المسلم» عام 1980، وبعد حوالى عقد عاد بعضهم إلى ليبيا وأعادوا بناء التنظيم سراً منطلقين من ضرورة العمل على التغيير من داخل البلاد، إلا أن الأجهزة الأمنية شنت حملة اعتقالات بحقهم عام 1999 شملت العشرات من قياداتهم. لتبدأ بعد ذلك العلاقة بين الطرفين تنحو منحًى مختلفاً عام 2005، حيث أيد «الإخوان» مشروع «ليبيا الغد»، من دون أن يعني ذلك السماح لهم بالنشاط داخل البلاد، فقانون تجريم الحزبية ظل ساري المفعول حتى بدء الانتفاضة ضد حكم العقيد القذافي.

لم تعمد تيارات الإسلام السياسي للعودة إلى العمل علنياً على الأقل طيلة فترة الثورة الليبية، إلا أنه كان من الواضح أنها تسعى إلى توطيد مراكز قوتها، إن كان عبر تأسيس الكتائب ذات التوجه السلفي الجهادي، أو عبر النشاط العام لخلايا «الإخوان المسلمين» الذي استأنفته فور بدء الانتفاضة ضد حكم معمر القذافي، وأعلنت عن حضورها بقوة عقب مقتله عبر إحكام سيطرتها على الكثير من مراكز القوة السياسية والعسكرية في البلاد.

يقول محمود جبريل إن الأعداد لهذا الأمر تم قبل مقتل القذافي بوقت طويل، ويشير إلى الدور القطري المبكر والكبير في هذا المجال عبر دعم التيارات الإسلامية السياسية والعسكرية، وكان الحصان الرابح في هذه الحلبة بدايةً هو عبدالحكيم بلحاج، أمير الجماعة الليبية المقاتلة السابق، والذي كان أُفرج عنه في إطار المصالحة مع النظام.

ويورد جبريل في حديثه إلى صحيفة «الحياة» كيف سعت قطر بجهد بالغ إلى فرض بلحاج ليكون قائد «عملية تحرير طرابلس»، لدرجة أنها طلبت تأجيل موعد العملية من 17 آب لثلاثة أيام بحجة أن الـ «ناتو» غير قادر على قصف الأهداف التي تم طلب تحييدها، ليتبين لاحقاً أن من بين 28 موقعاً كان الـ «ناتو» قد قصف بالفعل 24 هدفاً، وأن سبب التأجيل هو «محاولة تمكين عبدالحكيم بلحاج من استجماع قوات كافية في منطقة الجبل ليدخل بها طرابلس حتى يعلن أنه هو من حرر المدينة».

وتؤكد «مجموعة الأزمات الدولية» هذه الرواية بالقول إن «خلفية تعيين بلحاج وتشكيل المجلس نفسه غامضة، وإن كثيرين بين المصراتيين والجيش الوطني والقيادة العسكرية الغربية كانوا ينظرون إلى أنشطة بلحاج على أنها ترقى إلى حالة الانقلاب».

أمضى معمر القذافي الأسابيع الأخيرة في حياته متحصناً في مدينته الأثيرة سرت، وظل يقاوم مع عشرات من مقاتليه وبعض أركان حكمه وابنه المعتصم حتى اللحظات الأخيرة التي قرروا فيها ضرورة المغادرة، وذلك بعد حصارهم في أحد الأحياء لأكثر من أسبوعين، كانت طائرات الـ «ناتو» تقصف المنطقة من حين لآخر من دون معرفتها أن القذافي كان يتحصن فيها، بينما انشغل كثر من مقاتلي المعارضة بنهب غالبية منازل المدينة وقصفها عشوائياً. وفي 20 تشرين الأول قتل القذافي بطريقة بشعة من جانب معارضيه بعد رصد الـ «ناتو» موكبه وقصفه، ولم يفتح تحقيق رسمي في أسباب وفاته وابنه المعتصم الذي اعتقل حياً مع العشرات من الجنود الذي الذين تأكد إعدامهم أيضاً، على رغم ما أعلنه رئيس المكتب التنفيذي في حينه محمود جبريل عن ضرورة القيام بذلك. و

يهمس مقاتلو مصراتة بقصص الانتهاكات الجنسية التي تعرض لها الزعيم الليبي، وهو ما أثبته تقرير طبي أولي اختفى لاحقاً من مستشفى «مصراتة الوطني» الذي عاين الجثة وأرجع سبب الوفاة الرئيسي إلى نزيف داخلي في الأحشاء. يقول سكان مصراتة إن القذافي كان أعطى أوامر لمقاتلي بلدة تاورغاء المجاورة الذين تطوعوا للقتال إلى جانب «كتيبة خميس» باغتصاب نسائهم، وهو ما دفع مقاتلي المدينة للانتقام بتهجير سكان «تاورغاء» وقتل الكثير من أبنائها، ويفسر أيضاً الطريقة التي قتل فيها معمر القذافي ولاحقاً ابنه معتصم.

ثمة مقبرة أرقام بالقرب من شاطئ مصراتة على المتوسط اليوم يطلق عليها سكان المدينة تندراً اسم «فندق جنات»، وتضم حوالى سبعمئة قبر متسلسل رقمياً لمقاتلين ومدنيين من المؤيدين للقذافي قضوا في ظروف غامضة.

مذّاك الحين ارتبط اسم كتائب مصراتة، هذه المدينة التي لا يتعدى تعداد سكانها المئتين وخمسين ألف نسمة، بغالبية الأحداث الدموية التي عاشتها البلاد، خصوصاً بعد أن انتظمت في إطار ما بات يعرف بـ «دروع ليبيا» بطلب من رئيس المؤتمر الوطني الليبي المنتهي صلاحياته نوري بوسهمين، وباتت بمثابة الجناح العسكري لـ «الإخوان المسلمين».



 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
سيف الإسلام القذافي يخطط للترشح لرئاسة ليبيا
اشتباكات غرب طرابلس... وحكومة «الوحدة» تلتزم الصمت
رئيس مفوضية الانتخابات الليبية: الخلافات قد تؤخر الاقتراع
خلافات برلمانية تسبق جلسة «النواب» الليبي لتمرير الميزانية
جدل ليبي حول صلاحيات الرئيس القادم وطريقة انتخابه
مقالات ذات صلة
دبيبة يواصل مشاورات تشكيل الحكومة الليبية الجديدة
كيف تتحول الإشاعات السياسية إلى «أسلحة موازية» في حرب ليبيا؟
لقاء مع غسان سلامة - سمير عطا الله
المسارات الجديدة للإرهاب في ليبيا - منير أديب
ليبيا من حالة الأزمة إلى حالة الحرب - محمد بدر الدين زايد
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة