الثلاثاء, 04 يناير 2011 حازم صاغيّة
افتُتح العام الجديد، والعقد الجديد، بجريمة الكنيسة الاسكندرانيّة. إنّها "بداية حميدة" في تدليلها على ما ينتظرنا. الأمر لا يتطلّب عرّافين وقارئي فنجان وكفّ ممّن تزخر بهم التلفزيونات اللبنانيّة في نهاية كلّ عام. الأمر واضح: تحلّ الجريمة الأخيرة في مصر فيما الخوف يمنع مسيحيّي العراق من الاحتفال بمناسباتهم الدينيّة. المسيحيّتان الأعرق في هذه المنطقة لا مكان لهما. اليهوديّة العراقيّة الأعرق كانت سبقتهما إلى الزوال. لبنان الذي أريد له عند نشأته أن يكون "وطن أقليّات"، صارت صورته تلك موضع هجاء وسخرية.
أسوأ ممّا عداه، ما يردّده أغلب الرسميّين المصريّين والعرب، وبعض الإعلاميّين، الكبار منهم والصغار: إنّها "الأصابع" و"الأيدي" الغريبة بالطبع. و"الغريب" هو عند البعض أميركيّ، وعند البعض إسرائيليّ، أو إيرانيّ. إنّها "المؤامرة" علينا. إنّها "الفتنة" المجهّلة المصدر. لماذا تبدو أجسامنا طيّعة إلى هذا الحدّ حيال اختراق "الأصابع" و"الأيدي": هذا سؤال لا يُسأل. وراء هذه اللغة تكمن صورتنا عن ذاتنا بوصفها ذاتاً كاملة: فعن شعوبنا العظيمة لا تصدر إلاّ العظمة. ما هو سيّئ يأتي من الآخرين.
لكنّ اللغة نفسها تخبّئ رغبة في قتل المزيد: إمّا من المسيحيّين أو من الشيعة أو من السنّة أو من الأكراد أو... أمّا اختيار الضحيّة، فيقرّره الظرف والبلد ومدى احتدام الأزمات لدى المجتمعات أو لدى الأنظمة. لكنّ الملاحظ أنّ المسيحيّين، بسبب ضعفهم، مرشّحون لأن يكونوا الضحيّة الثابتة إلى جانب الضحايا المتحوّلين.
الهروب من المراجعة الصارمة كان السمة الغالبة للتعاطي مع الجريمة الأخيرة. ذاك أنّ المراجعة مكلفة جدّاً وجارحة لنرجسيّاتنا: المراجعة، في مصر تحديداً، تبدأ مع عبد الناصر وانقلاب يوليو 1952، تمرّ بالسادات ومحاباته للإسلاميّين، تنتهي بمبارك الذي، في سياق حربه مع "الإخوان المسلمين"، ديّن الثقافة والاجتماع المصريّين. المراجعة أيضاً تطال المنطقة في عمومها، أقلّه من نواح ثلاث:
- كيف أنّ تحالف المحافظين مع الغرب، سياسيّاً واستراتيجيّاً، تساوى في نتائجه مع المناهضة الراديكاليّة للغرب سياسيّاً واستراتيجيّاً: في الحالتين كانت الحصيلة عداءً للثقافة الغربيّة وللتنوير وتطويراً للاستبداد سلطةً واجتماعاً.
- كيف أنّ تناسل القضايا الإيديولوجيّة الكبرى، وعلى رأسها الصراع العربيّ-الإسرائيليّ، كان وسيلة هرب من عجزنا عن بناء مجتمعات متسامحة وقابلة للحياة. في هذه الغضون فاضت النزاعات السياسيّة القصوى عن الحدود الضيّقة للسياسة كي تستقرّ في الثقافة والاجتماع والعلاقات الأهليّة. - كيف أنّ الامتناع عن الإصلاح الدينيّ أدّى، ويؤدّي، إلى تمكين الدين من الحياة العامّة التي هي رقعة اشتراك بين مواطنين مختلفين في الدين أو في المذهب.
ومصر تحديداً تبقى مدعاة لقلق خاصّ: مهد التنوير العربيّ في الثلث الأوّل من القرن الماضي، والبلد الأكبر عدداً، والموقع الاستراتيجيّ الممتدّ على قارّتين: مصر هذه لا تعمل. أنشط ما فيها اليوم فتاوى المشايخ التلفزيونيّين. إنّها تنتظر المخلّص، وانتظار المخلّص لا يخلّص. إنّه يؤدّي إلى تجنّب الكارثة عبر الانخراط في كوارث أكبر (هذا ما يقترحه البعض حلاًّ: اغطسوا في حرب). إنّ ما يحدث اليوم يشبه البكاء على أطلال الأقليّات في العالم العربيّ. امرؤ القيس هو المعلّق الأبرز... أمّا "التحليل"، ومعه الحماسة، فمتروكان للعنصريّة حيال المسلمين في أوروبا! ولقبطيّ فقد ابنه في الكنيسة أن يقول: خذوا هذا الشعر وأعطونا تلك العنصريّة.
|