الأحد, 26 ديسيمبر 2010 حازم الأمين
تم في 2010 تفتيت الإرهاب، من دون أن يتم القضاء عليه. هذا ما أطلق عليه في الغرب ظاهرة «الميكرو-تيروريزم» (الإرهاب الصغير)، أي ذلك الإرهابي الوحيد والعصامي الملتصق بجهاز الكومبيوتر، والذي تقتصر دائرة المخاطر التي يشكلها على أفراد قليلين. ثم انه غير متصل بغيره من الإرهابيين، ولا هو بصدد ذلك، ومشاعره حيال ضحاياه كما حيال المجتمع الذي يقيم فيه غريباً ومقتلعاً، هي من ذلك النوع الذي يتطلب فهمها طبيباً نفسياً لا محللاً سياسياً أو خبيراً في الإسلام وتعاليمه.
انه إرهابي غربي حقاً، فالـ»ميكرو-تيروريزم» ظاهرة غير ناجمة عن القضاء على الإرهاب بصفته عملاً منظماً، وهي ليست ثمرة تفتيت التنظيم الأم، إنما أيضاً هي عملية تماه معقدة بين الإرهابي وبين مجتمعه الغربي. انه الإرهاب عندما يجعل من «الفردية» نموذجاً يمكن توظيفه. الفردية بصفتها منتجاً رئيساً من منتجات الحداثة والتغريب. فهذه الأخيرة ومثلما أنتجت تقدماً وتفوقاً وإبداعاً، انتجت أيضاً انتحاراً وكآبة وجريمة فردية، ومدناً وأحزمة فقر وضواحي صناعية. وهذه كلها ظواهر لم تُدرج في سياق إدانة الحداثة، إنما في سياق وصفها وتحديد ملامحها.
إذاً ما الذي يمنع من إدراج «الميكرو-تيروريزم» في منظومة منتجات الحداثة والعيش في مجتمع الأفراد، لا سيما أولئك الذين تحفل بهم مدن الغرب ومجتمعاته؟ فالعودة بالإرهابي الغربي إلى إسلامه الأول، وإلى الهوية التي غادرها، أو التي غادرها والده وربما جده، لن تجدي نفعاً في ظل العقم الكبير الذي تتخبط به تلك الهويات في بلاد المنشأ. بماذا يفيدنا البحث في عراقية تيمور العبدلي الذي فجر نفسه في استوكهولم قبل أسابيع؟ فهو غادر العراق في 1992 إلى السويد ودرس في جامعة بريطانية. البحث في سويدية الرجل سيكون مجدياً أكثر، ووضع فعلته في سياق ما أنتجه اغترابه وفرديته يساعد على فهم دافعه، في حين لا تساعد عراقيته على ذلك إطلاقاً. فـ «الذئب الوحيد»، على ما يسمى الإرهابي الغربي الجديد، ما كان وحيداً لو انه جزء من البنية الاجتماعية والذهنية ما قبل الاغترابية.
هذه ملامح إرهابي الغرب المسلم في نسخة 2010، وهي تختلف على نحو جوهري عن نسخة إرهابي الشرق في الـ2010. فهذا الأخير أصابت الحرب على الإرهاب تركيبته التنظيمية، فتفتتت البنية العنقودية التي كانت تربطه بجماعته، لكن ذلك لم يجعله «ذئباً وحيداً». وإذا كان تيمور العبدلي النسخة الأحدث عن إرهابي الغرب، وهو نسخة مجددة عن فيصل شاه زاد الباكستاني الذي كان وراء التفجير في ساحة تايم سكوير في أيار (مايو) الفائت، فإن النسخة الأحدث من الإرهابي الشرقي، هو الأردني الذي قتل مؤخراً في مدينة الموصل العراقية. فمحمد كان غادر إلى العراق وقبلها إلى الشيشان، حكم عليه في بلده غيابياً بالسجن المؤبد. أما في العراق فتزوج من سيدة عراقية من الموصل وأنجب منها أولاداً، ثم ألقي القبض عليه في العراق وسجن لمدة خمس سنوات أفرج عنه بعدها ليعود ويقيم في الموصل، في كنف أنسبائه، فيما انقطعت أخباره عن عائلته، ليعود ويقتل في مواجهة مع الجيش العراقي.
لعل أبرز ما يلفت متتبع سيرة محمد، كي يقارنها بسيرة زملائه الغربيين في الإرهاب، أن الأخيرين أصيبوا بغربة في مهاجرهم على رغم انتقالهم إليها مع عائلاتهم النواتية، فيما لم تصب هذه الغربة محمد حين ترك عائلته في السلط وانتقل إلى الموصل وحيداً لكنه غير غريب. في الموصل تزوج وأقام وسُجن وأفرج عنه، وعاود نشاطه وكأنه ولد هناك. عائلته في السلط، لا بل أيضاً عشيرته الكبيرة والنافذة في عاصمة الشرق أردنيين، لم يعن ابتعاده عنها تحوله «ذئباً وحيداً»، إذ في الموصل امتداد لها، وإن كان غير رحميّ. والغريب أن إخراجه من السجن العراقي، وهو الأردني، لم يعن ترحيلاً من البلد الذي ليس بلده. أفرج عنه في الموصل وتوجه إلى منزل أنسبائه هناك وأكمل حياته كأي عراقي كان في السجن. انه بلده وهذه عشيرته وتلك زوجته وهذا العالم عالمه!
محمد هو الإرهابي الذي أنتجناه هنا، وتيمور هو الإرهابي الذي انتجته «الفردية» في الغرب. وإذا كان الثاني «ذئباً وحيداً» فالأول «ذئب غير وحيد على الإطلاق». يستدعي ذلك من الغرب أثناء تفكيره بإرهابييه تخفيف التعويل على الجوهر الإسلامي في الدافع إلى الإرهاب، ومباشرة البحث في الهوية الغربية لمن يباشره في بلاده. وربما يُساعد نزع هذا الجوهر عن تلك الأفعال في جعل الإرهاب جريمة عادية غير مقدسة في وعي أجيال المهاجرين.
أما ما تستدعيه منا حكاية محمد قطيشات، وقبله حكاية عمر البرقاوي المطابقة تماماً لحكاية محمد، فهو بالإضافة إلى التفكير بالجوهر الديني لهذا العنف، بداية تفكير في كيفية ترسيخ هويات وطنية حديثة لا يشعر في ظلها محمد وغيره عندما ينتقل من الأردن إلى العراق، أو من السعودية إلى اليمن، أو من الجزائر إلى ليبيا، انه ما زال في كنف أهله وفي حماهم. فقد كشفت ضائقة الإرهاب التي تكابدها بلداننا ضعفاً كبيراً في إيمان مجتمعاتنا بالقواعد والحدود التي يفترضها وجود دولة، وسعي نظام إلى إرساء هوية وطنية مستقلة عن الروابط الاجتماعية والقبلية العابرة للحدود.
لكن المقارنة بين الإرهابي الغربي والإرهابي الشرقي تغري أيضاً بالتفكير في لحظة يلتقي فيها الإرهابيان. إنها لحظة هوليودية من دون شك. أنور العولقي الأميركي المولد واللغة والثقافة، واليمني الأصل، والذي تعرف إلى الإسلام في نيويورك، وليس عبر والده المهاجر كما أنشأ مجلة «انسباير»، الناطقة باسم «القاعدة» باللغة الإنكليزية، أنور هذا فر إلى اليمن الذي لا يعرفه عندما اكتشف أمره في أميركا، وهو اليوم المطلوب رقم واحد في اليمن. ومن المرجح وفق الصحافة الغربية انه يقيم ويختبئ في حمى عشيرته هناك. عشيرته التي لم يولد في كنفها، والتي لم يسمع أفرادها باسمه ولا باسم والده المهاجر. عشيرته المستعدة اليوم لأن تخوض حرباً ضارية من أجله. أنور العولقي هذا من القلة في تنظيم القاعدة ممن يستقبلون أسئلة الصحافيين عبر قنوات إلكترونية، ويجيبون عنها. وربما كان مفيداً أن نسأله، هو الأميركي المولد والنشأة، وغير المجيد للغة العربية، عما إذا كان قد أنس للإقامة في كنف عشيرته التي لا يعرفها، أم انه ضجِرٌ ويتمنى أن يعود إلى نيويورك؟
|