في وقت تنزلق ليبيا الى مزيد من الفوضى، وتتعمق صدوع النظام وتتسع رقعة الاحتجاجات الشعبية في الداخل والانشقاقات الديبلوماسية في السفارات الليبية حول العالم، أطل الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي مساء أمس على التلفزيون الحكومي غاضباً ليوجّه خطاباً بدا فيه يخوض معركته الاخيرة، فحض مناصريه على "النزول الى الشوارع بالملايين لتطهير ليبيا شبرا شبرا"، مؤكدا انه لن يتنحى وسيقاتل حتى "اخر قطرة دم" ويموت في ليبيا "شهيداً". وبعد ليلتين دمويتين في طرابلس، مدينة المليوني نسمة، كال القذافي النعوت للمحتجين الذين يشكلون تحدياً جدياً لا سابق له لنظامه المستمر منذ 42 سنة، واصفاً إياهم بـ"الجرذان والفئران وشذاذ الافاق ومدمني مخدرات"، واستعاد شريطاً من عمليات القمع الدموية حول العالم، من تيان أن مين الى الفلوجة مروراً بموسكو، فلوّح بجولة جديدة من القمع، ورأى ان المحتجين يستحقون الاعدام "بموجب قانون العقوبات الليبي".
وبدا لافتاً ذكر القذافي في خطابه مراراً أمين اللجنة الشعبية للداخلية اللواء الركن عبدالفتاح يونس العبيدي، مذكراً بأنه كان إلى جانبه مدى سنين طويلة، وأنه قاتل معه الأميركيين والرئيس المصري السابق أنور السادات، قبل أن يطل الاخير في تسجيل حصلت عليه قناة "الجزيرة" الفضائية القطرية معلناً استقالته، وداعياً القوات المسلحة الى الانضمام الى الثورة والاستجابة لمطالب الشعب. وقال العبيدي: "اعلن انا اللواء ركن عبدالفتاح يونس اني تخليت عن جميع مناصبي استجابة لثورة 17 فبراير وذلك لقناعتي التامة بصدق مطالبها العادلة... اهيب بكل القوات المسلحة ان تستجيب لمطالب الشعب نصرة لثورة 17 فبراير". وقبل العبيدي، كان أمين اللجنة الشعبية للعدل مصطفى عبدالجليل أعلن الاثنين استقالته من منصبه احتجاجاً على استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين.
القذافي وبلباس بني ونبرة غاضبة، ألقى القذافي خطابه المرتجل الذي استغرق 75 دقيقة. وهو ألقاه على ما يبدو أمام مسكنه في باب العزيزية الذي قصفته الطائرات الأميركية عام 1986، وقال: "لا يمكن ان اترك رفات جدي الطاهر انا سأموت معهم شهيدا في النهاية... معمر القذافي ليس رئيساً هو قائد ثورة. الثورة تعني التضحية دائما وابدا حتى نهاية العمر. هذه بلادي بلاد اجدادي واجدادكم. انا لو عندي منصب او لو كنت رئيسا، لكنت لوحت بالاستقالة على وجوهكم ولكن انا ما عندي شيء استقيل منه"، رافضاً النداءات للتخلي عن السلطة من ديبلوماسييه وجنوده والمحتجين الذين يطالبون بانهاء أربعة عقود من حكمه. وتوعد بانه سيدعو الشعب الليبي الى "تطهير ليبيا شبراً شبراً بيتاً بيتاً داراً داراً فرداً فرداً" الى أن يستسلم المحتجون في الشوارع. و دعا، وهو يدق بيده على المنصة، الليبيين الى الخروج الى الشوارع اليوم في مسيرات لتأييده. وقال: "من بكرة اخرجوا من بيوتكم... يا اللي بتحبوا معمر القذافي رجال بنات نساء اطفال يا اللي مع معمر القذافي... اخرجوا من بيوتكم انتم يا من تحبون معمر القذافي، معمر المجد والعزة، واقضوا على الجرذان، امنوا الشوارع شدوا الجرذان ما تخافوا منهم. اقضوا عليهم طاردوهم في كل مكان اصحوا اخرجوا من بيوتكم". وطالب المتمردين بـ"تسليم الاسلحة واطلاق سراح الاسرى والقبض على المشاغبين واعادة الحياة الطبيعية في الموانئ والمطارات"، مهدداً بأنه "ما لم يتحقق ذلك سنعلن الزحف المقدس... وسنوجه نداء الى الملايين من الصحراء الى الصحراء، وسنزحف عليهم بالملايين لتطهير ليبيا بيتا بيتا وشبرا شبرا ودارا دارا وزنقة زنقة...". وفي ما ينذر بموجة جديدة من العنف, قال: "لم نستخدم القوة بعد، واذا تطورت الامور سنستخدمها وفقاً للقانون الدولي والدستور الليبي"، وتلا مواد من قانون العقوبات الليبي تعاقب بالاعدام من يقوم باعمال مخلة بالامن. ودعا الى تأليف "لجان الامن الشعبي في المدن لحفظ الامن... لجان للدفاع عن الثورة وعن كل مكتسباتها في كل المدن الليبية". وفي ما بدا ترهيباً للغرب، لوح بخطر تنظيم "القاعدة" عندما قال ان مدينة درنة في شرق البلاد، "يحكمها اتباع بن لادن"، وان عدم عودة الهدوء الى البلاد سيعني ان "الوحدة الليبية ستكون معرضة للخطر او لقوى معادية للحرية والديموقراطية تشوه الاسلام مثل القاعدة بالذات". وفي معرض توجيه اتهاماته الى المتمردين وصفهم ايضا بانهم "عملاء اميركا وعملاء بن لادن وعملاء الزرقاوي". وحذر من ان الحركة الاحتجاجية الجارية في البلاد "ستؤدي الى حرب اهلية". واضاف: "هذه بلادي، بلاد اجدادي واجدادكم غرسناها بايدينا وسقيناها بدماء اجدادنا، نحن اجدر بليبيا من تلك الجرذان واولئك المأجورين المدفوع لهم الثمن من المخابرات الاجنبية".
دستور جديد وتوزيع الثروة وفي موازاة التهديد، أبدى بعض التسليم بمطالب المحتجين، ولم يمانع في وضع دستور للبلاد، او إلغاء اللجان الشعبية واعادة توزيع الثروة على الشعب. وقال: "لا امانع ان يعمل الشعب الليبي دستوراً أو اي قانون... بامكانكم ان تقرروا توزيع الثروة من جديد... اذا لم يعد لديكم ثقة باللجان الشعبية، خلاص كل واحد يأخذ حصته". الى ذلك، اتهم "اجهزة عربية شقيقة" بالوقوف وراء الاضطرابات التي تشهدها بلاده، وقال ان "اجهزة عربية ويا للاسف شقيقة تغركم وتخونكم وتقدم صورتكم بشكل مسيء"، واصفا اياها بـ"اجهزة الخيانة والعمالة والرجعية والجبن". وهدد المتمردين برد شبيه بقصف الجيش الروسي للبرلمان في موسكو خلال وجود النواب داخله خلال الفترة الانتقالية بين تفكك الاتحاد السوفياتي ونشوء دولة روسيا مطلع التسعينات، وبسحق الصين حركة تيان ان مين في بيجينغ أواخر الثمانينات، والقصف الاميركي للفلوجة في العراق بعيد الاجتياح الاميركي لهذا البلد عام 2003. وذكر ان "رئيس روسيا أحضر الدبابات ودك مبنى مجلس النواب والاعضاء كانوا موجودين بداخله حتى خرجوا مثل الجرذان، والغرب لم يعترض بل قال له انت تعمل عملا قانونيا"، و "الطلاب في بكين اعتصموا لايام قرب لافتة كوكا كولا... ثم اتت الدبابات وسحقتهم"، و "اميركا مسحت الفلوجة بالطيران مسحا بذريعة مقاومة الارهاب"، وخلص الى ان "اميركا لا يمكنها الاحتجاج على ما يجري لدينا لانهم فعلوا ذلك في الفلوجة" بالعراق.
وختم خطابه قائلا: "دقت ساعة الزحف والعمل والانتصار، ولا رجوع، الى الامام، الى الامام، الى الامام، ثورة، ثورة، ثورة". وغادر المكان بعدما ضرب بقبضته على المنصة امامه. وبعد انهائه خطابه، سمعت عيارات نارية احتفالية في طرابلس، بينما رشقت حشود بالاحذية شاشة عملاقة كانت تنقل الخطاب في بنغازي. وقبل خطاب القذافي، أفادت اللجنة الشعبية للدفاع أن العنف الذي يهز ليبيا منذ ايام من عمل عصابات من شبان مجرمين تحركهم قوى أجنبية منها "القاعدة".
300 قتيل واستناداً الى مصادر رسمية، ادت اعمال العنف التي رافقت حركة الاحتجاج الى مقتل 300 شخص، هم 242 مدنيا و58 عسكريا، علماً أن منظمات دولية تقدر العدد بأكثر من ذلك بكثير. وسقط قرابة نصف الضحايا في بنغازي، ثانية مدن البلاد، التي انطلقت منها حركات الاحتجاج على مسافة الف كيلومتر شرق طرابلس.
طرابلس مشلولة وبدت طرابلس أمس شبه مشلولة، وأقفلت أكثر أسواقها ومحالها التجارية ومصارفها، باستثناء عدد من مخابزها ومحطات الوقود التي يصطف امامها المواطنون والسيارات، في ظل اختفاء للدوريات الأمنية. وروى سكان في العاصمة أنهم يحاولون نشر عوائق من الاسمنت والخشب أمام منازلهم للاحتماء من المسلحين. وروى شاهد لـ"الاسوشيتد برس" أنه رأى خيماً عدة في المدينة تشيع ضحايا عمليات القمع التي نفذتها الميليشيات ليل الاحد - الاثنين في العاصمة. وشهدت منطقة الفشلوم الفقيرة إحدى المعارك الاكثر دموية في العاصمة، حيث روى شهود أن مسلحين أطلقوا النار على السكان وسيارات الاسعاف، وترك الجرحى في الشوارع .
تخريب منشآت ونسبت مجلة "تايم" الاميركية الى مقرب من الحكومة الليبية أن القذافي أمر قوى الأمن بتخريب منشآت النفط في البلاد، وأن التخريب سيبدأ بتفجير خطوط أنابيب إلى البحر المتوسط، وذلك "بهدف توجيه رسالة إلى القبائل المتمردة في ليبيا مفادها... إما أنا وإما الفوضى". و ص ف، رويترز، أ ب، أ ش أ، ي ب أ
|