ظهر منذ اليوم الأول من جولة القتال في غزة، أن حركة «حماس» قد حققت مكاسب مهمة. لقد منعت إسرائيل من الاحتفال بـ«يوم توحيد القدس» ووجهت دفعات متتالية من الصواريخ إلى تل أبيب وعدد من المدن البعيدة عن خطوط المواجهة بتكتيكات جديدة أربكت «القبة الحديدية»، وعززت موقعها كشريك لا يُنازع في تمثيل الفلسطينيين مقابل القيادة المتهالكة في رام الله.
يُغري هذا التقييم بالظن أن «حماس» المتهمة بالإرهاب والمنضوية في المحور الإيراني، قدّمت خدمة لرئيس الوزراء المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو في سعيه اليائس للعودة إلى السلطة بعد فشله في تشكيل حكومة أثناء المدة القانونية التي منحها له رئيس الدولة رؤوفين ريفلين بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة في مارس (آذار) الماضي. لم ينتهِ نتنياهو كسياسي. فما زال حزبه «الليكود» يتمتع بشعبية واسعة مكّنته من الحصول على ثلاثين مقعداً في الكنيست الحالي. ومقولة تبادل الخدمات بين المتطرفين في المعسكرين، الفلسطيني والإسرائيلي، في حاجة إلى إعادة نظر.
ما يغفل عنه أصحاب الرأي القائل إن كلاً من جانبي القتال الدائر في غزة يوفر مبررات نهج التشدد، هو أن الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية غير مهيأتين حالياً للقبول بمبادرة سلمية من أنّى جاءت. مشروع جاريد كوشنر مستشار الرئيس الأميركي السابق، لم يرَ النور ليس لضحالة ما تضمنته «صفقة القرن» من رؤية لمستقبل المنطقة والحل النهائي للقضية الفلسطينية فحسب، بل خصوصاً لأن ما من قوى مؤيدة للسلام تستحق هذه التسمية لا في إسرائيل ولا عند الفلسطينيين. ممثلو ما كان يعرف بمعسكر السلام الإسرائيلي في الكنيست لا يزيد عددهم على 13 نائباً موزعين على حزبي «العمل» و«ميرتس»، علماً بأن «العمل» قد تراجع كثيراً عن التزامه بالسلام منذ اغتيال زعيمه ورئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين، وأضاع خلفه شمعون بيريس الفرصة بالمماطلة والتسويف بذريعة العمل على وقف هجمات «حماس» الانتحارية، إلى أن جاء فشل مفاوضات ياسر عرفات – إيهود باراك سنة 2000 وتبع ذلك اندلاع الانتفاضة الثانية.
غلبة الخطاب والسياسات اليمينية المتطرفة لم تبدأ مع مقتل رابين في 1995، بل يمكن التأريخ لها مع وصول مناحيم بيغن إلى رئاسة الوزراء في 1977 ليعكس جملة من المتغيرات الداخلية الإسرائيلية من مثل زيادة دور ونفوذ اليهود المتحدرين من دول عربية على حساب اليهود الأوروبيين والتوجه نحو تخفيض دور القطاع العام في الاقتصاد والاستفادة من الاختلال في موازين القوى العالمية لمصلحة الولايات المتحدة وضمور الدور السوفياتي المساند للعرب... إلخ... تفاقم التوجه اليميني مع مجيء الموجات الكبيرة من المهاجرين اليهود من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات وتشكيلهم قوة سياسية وازنة استطاعت انتزاع حصة من التمثيل في الكنيست وشاركت في الحكومات مرات عدة بقيادة أفيغدور ليبرمان.
التقى هنا نزوعان يمينيان، ديني وعرقي، يمثلهما اليهود الشرقيون والآتون أخيراً من الكتلة السوفياتية في الوقت الذي كان وزن الكتلة اليهودية الأوروبية التي حكمت إسرائيل حتى منتصف السبعينات يتراجع. وعلى الرغم من أن أكثرية هؤلاء من يهود أوروبا الشرقية مثل أترابهم الذين جاءوا بعد سماح ميخائيل غورباتشوف لليهود بالهجرة، فإن جلهم كان مما يُعرف بـ«اليسار الصهيوني» الداعي إلى بناء نوع من الاشتراكية لليهود على أرض فلسطين. ومعروفة بقية الحكاية عن كيفية تقدم أحزاب مثل «شاس» لتتصدر المشهد السياسي وتفرض ممثليها قبل أن تأتي الأحزاب الدينية الأخرى التي تهتم بمصالح أتباعها في المقام الأول وتتفق فيما بينها على تجاهل كامل الموضوع الفلسطيني الذي روّجت الحكومات الإسرائيلية أنه انتهى مع نهاية الانتفاضة الثانية.
وليست الائتلافات الحكومية المتنافرة بالأمر الجديد في إسرائيل التي شهدت حكومات ضمت، على سبيل المثال، «شاس» الديني و«ميريتس» اليساري بقيادة «العمل» من يسار الوسط. لكن المتغير الجديد هو أن تشرذم الساحة الحزبية لأسباب تمتد من التحولات الديموغرافية والإثنية إلى قانون الانتخابات المستند إلى النسبية والدائرة الواحدة، جعل من تشكيل حكومة متجانسة أمراً في غاية الصعوبة، على ما تشهد الحكومة الأخيرة التي انهارت بعدما انسحب عدد من أعضاء حزب «أزرق أبيض» منه، ما أتاح لنتنياهو التهرب من اتفاقه مع رئيس «أزرق أبيض» بيني غانتس على ترؤس الحكومة مداورة. ولا بد من إضافة العامل الشخصي المتمثل في بنيامين نتنياهو وولعه بالسلطة وبالمناورات الصغيرة والمفاجآت التي تأخذ في الغالب سمة الغدر بالأصدقاء.
وكائنةً ما كانت ظواهر وبواطن الأزمات السياسية الإسرائيلية إلا أنها بدأت تنعكس على صوغ السياسات العامة للدولة وعلى قدرتها على إدارة الأزمات الحادة من مثل هبّة فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1948 بالتزامن مع احتجاجات الضفة الغربية والمعركة في غزة. ولن تكون أي حكومة مقبلة من التماسك بحيث تسير في مشروع سلام حقيقي لا مع الفلسطينيين ولا مع غيرهم نظراً إلى غياب القناعة العامة لدى القسم الأكبر من الناخبين الإسرائيليين بجدوى تقديم تنازلات مهما كانت صغيرة للفلسطينيين، ناهيك بالخطوات الكبيرة والخطيرة التي يتطلبها الحل النهائي والتي لا يريد الإسرائيليون مجرد التفكير فيها.
عليه، ستنتظر عملية السلام طويلاً قبل أن تُبعث حية في ظل الانقسامات الداخلية العميقة عند الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي اللذين سيحتاجان إلى إعادة تنظيم سياسية جذرية قد ينتج عنها «معسكر سلام» جديد إذا تبين أن ثمة مصلحة إسرائيلية وإقليمية ودولية في إنهاء النزاع. وهذا ما لا يمتلك الحديث عنه الآن أي معنى.
|