ما أن يظهر على شاشة التلفزيون نائب أو ناشط أو قياديّ من التيّار العونيّ، حتّى يُمسك الكثيرون قلوبهم بأيديهم. الفضيحة في طريقها إلينا. «فلنُبعد الأطفال ولنُدخلهم إلى غرف نومهم»، قد تقول أمّ لأب أو أب لأمّ لا يريدان لصغارهما سماع هذا الكلام. الأنوف تتقلّص. الشفاه تنقلب...
المُشاهد يشعر، والحال هذه، أنّ ما ينتظره هو واحد من ثلاثة: إمّا بذاءة جنسيّة حيال سيّدة تخالف المتحدّث العونيّ رأيه، أو بذاءة عنصريّة ضدّ سوريّين أو فلسطينيّين، أو بذاءة طائفيّة ضدّ مسلمين بالمطلق. سيّد الكلام هو بالضبط ما حالَ التأدّب والتمدّن دونه.
ممثّلو الأحزاب والتيّارات اللبنانيّة الأخرى قد يرتكبون شيئاً من هذا القبيل، لكنّه يبقى استثناء يحضر في حالات الغضب والتوتّر الأقصيين. مع العونيّين، إنّه القاعدة. وهو قد يأتي غاضباً لكنّه كثيراً ما يأتي هادئاً كما لو أنّه العاديّ الذي لا يعوزه انفعال وغضب. تلفزيونهم، أو تي في، هو المعرض الأبرز لتلك البضاعة وإن كانت تفيض عنه إلى باقي التلفزيونات.
أغلب الظنّ أنّ البذاءة لم تغب يوماً عن لغة النخبة السياسيّة العونيّة، لكنّها لم تحضر يوماً بمثل هاتين الكثرة والكثافة. وراء ذلك، على الأرجح، شعور بالانفكاك والانفصال عن كلّ شيء. عن كلّ ما يربط القائل بمُتلقٍّ ما. عن كلّ مسؤوليّة عامّة بالتالي.
الدولة والمؤسّسات؟ النجاح الاقتصاديّ؟ «العهد القويّ»؟ مكافحة الفساد؟ صورة لبنان في العالم؟ هذه بعض العناوين العونيّة التي انتهى بها الأمر أصفاراً. «لا علاقة لنا بهذا»، يقال.
بيد أنّ الانفصال يتبدّى على أوضح أشكاله في عنوانين هما أكثر العناوين العونيّة حميميّةً:
الدفاع عن حقوق المسيحيّين ومصالحهم، والولاء للجيش الذي خرج ميشال عون من صفوفه.
لكنّ المسيحيّين اليوم، بعد ثورة 17 تشرين الأوّل وخصوصاً بعد انفجار المرفأ في 4 آب، لا يتعرّفون في العونيّة إلاّ على قضم حقوقهم ومصالحهم. أمّا الجيش المقهور، مثله مثل الشعب، فبات نزاع قائده جوزيف عون ورئيس الجمهوريّة خبر الحياة السياسيّة الأوّل.
يكمّل هذا الانفصالَ أنّ الأزمة المتعدّدة الأوجه التي انفجرت في العهد العونيّ ترافقت مع فهم تافه ومع سلوك شرّير: في الفهم، هناك عجز مطبق عن تعقّل ما يجري يصحبه سخاء في التأويل عبر تفسيرات تجمع التآمريّة إلى أبرشيّة القرى المعزولة. في السلوك، هناك جشع صغير يثير أوسع القرف لإعاقته تشكيل حكومة هي وحدها شرط الإصلاحات التي هي شرط القروض والمعونات.
هذا ما يسمح بالقول إنّ العونيّة فشلت في أن تكون أكثر من تيّار عارض وعابر في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، وخصوصاً المسيحيّة. لا هي شمعونيّة أخرى ولا شهابيّة أخرى. لا هي «كتلة دستوريّة» ولا «كتلة وطنيّة» ولا «كتائب» من نمط جديد. أغلب الظنّ أنّها لن تعمّر طويلاً.
طبعاً لم تكن الأمور دوماً هكذا. قبلاً، وحتّى الانتخابات الرئاسيّة في 2016، حظيت العونيّة بقوّة تفويض شعبيّ مدهشة تجاوزت تمثيل ثلثي المسيحيّين. لقد استطاعت عقد «تفاهم» مع «حزب الله» كان مدخلاً إلى تغيير المزاج السياسيّ التقليديّ للمسيحيّين. الأخيرون، وللمرّة الأولى في تاريخهم الحديث، صاروا يكرهون الغرب ويتودّدون للنظام الأمنيّ في سوريّا. حتّى «المقاومة» أحبّوها، خصوصاً أنّ قتلاها من طائفة أخرى. إلى ذلك كان يبدو لكثيرين أنّ العونيّين، الذين عارضوا اتّفاق الطائف ولم يشاركوا في حكوماته، يملكون الناصية الأخلاقيّة.
اليوم، تغيّر هذا كلّه، حتّى أنّ بعض المراقبين بدأوا يتوقّعون تخلّي «حزب الله» عن «التفاهم» معهم لأنّهم لم يعودوا يضيفون إليه ما يُعتدّ به.
من هذا الانفصال عن كلّ ما يحيطهم تولد الأخلاق الجديدة للنخبة العونيّة. إنّها مثل أخلاق المقاتلين في الأسواق التجاريّة إبّان حرب السنتين: يتبادلون أقذع الشتائم التي تطال الأهل والمقدّسات فيما هم معزولون عن مجتمع خائف يحتمي بالبيت، غير معنيّين بأيّ محاسبة أو اعتبار ما خلا البقاء أطول مدّة في عزلة يزيدها القتال تصحيراً. المقاتلون، والحال هذه، يعودون إلى خامهم الأوّل، إلى أسوأ ما ورثوه من طبقاتهم الاجتماعيّة ومناطقهم وتربيتهم. إلى الرثاثة التي ينتجها انقطاع الصلة بكلّ ما هو حيّ ومنتج ومتحرّك. أولئك المقاتلون كانوا يتغوّطون أو يتبوّلون في أمكنة عامّة وخاصّة كانت تشغلها قبلاً فنادق ومدارس ودور عبادة. كانوا يفعلون كلّ ما لا يُفعل.
بهذا المعنى لم يكن مدهشاً أن يحظى العونيّون بالقسط الأوفر من الشتائم التي صدحت بها حناجر متظاهري الثورة. المدهش أنّ البيئة العونيّة كانت الأكثر استنكاراً للشتائم التي عدّتْها «بذاءة».
|