لم تهدأ وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من تداول الحكم الذي أصدرته محكمة كوبلنز الألمانية بحق صف ضابط سوري عمل لسنوات في أحد أسوأ الفروع الأمنية وتهمته المساعدة في اعتقال العشرات، ما يمهد لإصدار حكم بحق ضابط التحقيق في الفرع نفسه، يمثل أمام المحكمة ذاتها، ومتهم باعتقال آلاف المدنيين وقتل العشرات منهم تحت التعذيب.
وإذ حظي الحكم بالترحيب والتشجيع وبدا كأنه اختراق لحالة الإحباط واليأس التي يعيشها السوريون بعد عشر سنوات عجاف من إعلان ثورتهم، لكن المشهد لم يخلُ من انتقادات واعتراضات، بعضها ممن حكمت مواقفهم مزايداتٌ وآثروا النظر إلى الأمر من زاوية ضيقة، وبعضها ممن غابت عنهم بعضُ التفاصيل والمعطيات، وربما لم يبذلوا جهداً كافياً للتدقيق في الحيثيات والوقائع.
أولاً، ما كان لهذه المحكمة أن تنعقد لولا التوظيف العالمي المغرض لمبادئ حقوق الإنسان، وتعطيل بعض الأطراف الأممية، ولأسباب سياسية، دور المحكمة الجنائية الدولية في متابعة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في سوريا، يحدوها تواطؤ وصمت البعض الآخر على فظاعة ما تعرض له المدنيون السوريون من انتهاكات، ما فتح الباب لتفعيل واستثمار مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي اعتمدته بعض الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا عام 2002 وتبيح ملاحقة المشتبه باقترافهم جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، كجرائم التعذيب والإبادة، أياً تكن جنسياتهم وأيا يكن موقع الجريمة، ومقاضاتهم على ما ارتكبوه.
ثانياً، تعرض هذا الخيار للكثير من التشكيك والاستهانة وأحياناً السخرية، وبخاصة من معارضين سوريين، بعضهم لم يجد قيمة أو جدوى فيما يقوم به الحقوقيون من جمع الأدلة وعرض القرائن وتقديم شهادات الناجين، وبعضهم اعتبر ما يجري مجرد لهو وعبث غايتهما حرف الصراع السوري عن مجراه السياسي الحقيقي، وصل الأمر، بعد أن أثمرت الجهود أول حكم يصدر بحق أحد المرتكبين، إلى توجيه اتهامات بأن محاكمة سوريين يعيشون في أوروبا هو محاولة لتقديم أكباش فداء تمهيداً لتبرئة النظام السوري والرؤوس الأكثر إجراماً فيه، كذا!
الغريب، ألا يدرك هؤلاء المعارضون أنهم بموقفهم هذا، إنما يستهينون بضحايا الاعتقال والتعذيب، ويستهزئون ممن تجرأوا وقدموا شهادات حية عما عانوه، بل ويسمحون لأنفسهم بمصادرة حق هؤلاء الضحايا في مقاضاة جلاديهم، خاصةً أن بعضهم يغامر بمصيره ومصير أقاربه في سوريا، حين يتمسك بتقديم شهادته ويتجاهل ما يصله من تهديد ووعيد! والأشد غرابة أن تستمر تلك الاتهامات بعد أن أفضى الدفاع عن المرتكبيْن، بأنهما ينفذان أوامر الجهات الأعلى، إلى وضع النظام السوري بمختلف أركانه وشخصياته في قفص الاتهام، فكيف الحال وقد تضمنت حيثيات قرار الحكم وقرائن ملف الاتهام ومطالبة النيابة العامة عبارات صريحة وأمثلة تاريخية، كأحداث حماة 1980 تؤكد حصول جرائم منظمة وممنهجة في سوريا على يد سلطة حكمت البلاد بالحديد والنار والإرهاب! وهل هو لهو وعبث عندما تسمح المحكمة للشهود بتوثيق ما قامت به الآلة السلطوية الجهنمية من اعتقال المدنيين وإخفائهم قسراً وقتلهم تحت التعذيب وطمر جثامينهم بطريقة يندى لها الجبين، كالشهادة المرعبة لأحد المأمورين بحفر قبور جماعية لعشرات آلاف الهياكل البشرية الممهورة برقم الفرع الأمني الذي اعتقلها؟!
ثالثاً، إن انشقاق أي مسؤول في النظام السوري ووقوفه على الحياد أو انضمامه للمعارضة لا يلغي مسؤوليته القانونية والأخلاقية عما ارتكبه قبل انشقاقه ما دامت أفعاله تندرج ضمن نطاق الجرائم ضد الإنسانية، كما لا يلغي الحق البديهي للضحايا الذين نصبوا أنفسهم كمدعين شخصيين بمحاكمة جلاديهم، لكن ربما ما يثير بعض التسامح ويمنح المرتكب أسباباً تخفيفية هو مسارعته للاعتراف بجرائمه أمام المحكمة والاعتذار لضحاياه، وكشف ما يمتلكه من معلومات وأدلة، تفضح التسلسل الهرمي المسؤول عن إصدار الأوامر، كي توثق الأسماء والجرائم وتضاف إلى لائحة الاتهام، ما يفسر الحكم المخفف، لمدة أربع سنوات ونصف، على المتهم الأول الذي بادر بنفسه لتقديم اعترافات، تحولت لشهادة ضد أركان السلطة وضد المتهم الآخر الذي أنكر ما ارتكبه، ولا يزال ينكر، كالنظام السوري، وجود تعذيب وقتل في المعتقلات السورية!
رابعاً، إن هذا المسار من العدالة عابر للأديان والقوميات وجوهره محاسبة كل مرتكب تبعاً لملفه الإجرامي من دون النظر إلى منبته وأصله، ومثلما هناك دعاوى ضد مرتكبين من مختلف الطوائف والإثنيات، فإن القصاص لا يقتصر على جلادي النظام وشبيحته، أصحاب السجل الأوسع والأفظع من الانتهاكات، بل يمتد ليطاول الجرائم الخطيرة التي ارتكبها قادة وأفراد في مناطق المعارضة، وفي مناطق الفصائل الكردية، بمن فيهم قادة الميليشيات الموالية لإيران وأمراء التنظيمات الإسلاموية الذين عاثوا إجراماً وفساداً حيثما حلوا.
خامساً، صحيح أن ثمة ما يشبه الإجماع بأن ما حصل خطوة تاريخية وغير مسبوقة في طريق النضال من أجل تحقيق العدالة، وأنها تبعث ببعض الأمل والتفاؤل في نفوس ملايين السوريين الحالمين بمحاكمة كل من انتهك إنسانيتهم، وصحيح أن لهذا العمل الحقوقي وجهاً سياسياً بتجريم النظام وعرقلة محاولات تعويمه ومنحه شرعية دولية، لكنه ليس سوى حلقة من سلسلة حلقات تتمفصل وتتكامل، كملف صور قيصر، ومحاكمات مماثلة تجري في غير دولة أوروبية، ودعوة قضائية رفعت في ألمانيا من قبل ثلاث منظمات حقوقية «مبادرة عدالة المجتمع المفتوح» و«الأرشيف السوري» و«المركز السوري للإعلام وحرية التعبير» حول استخدام السلاح الكيماوي عامي 2013 و2017 وأخيراً ما أثير عن وجود أكثر من 900 ألف وثيقة حكومية جمعت خلال سنوات الحرب وتم تهريبها لتشكل أدلة قوية على تورط النظام السوري، بمختلف رموزه، بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
لم تتسع الفرحة صدر إحدى الفتيات فسارعت للاتصال بأمها كي تكون أول من ينقل إليها قرار الحكم وأول من يؤكد لها أن دماء أبيها وأخويها المغيبين منذ سنوات في أحد أقبية المخابرات السورية لن تذهب هدراً، بدت مزهوة، وكأن حملاً ثقيلاً رفع عن كاهلها، وهي تتقدم نحو ركن صغير أمام مبنى المحكمة يكتظ بصور العشرات من المعتقلين والمختفين قسرياً، افترشت الأرض بجانب صورة لشاب يفتر ثغره عن ابتسامة ساحرة تفيض بالحياة، وأجهشت بالبكاء.
|