لا بأس، مع خروج الصقور من الإدارة الأميركية ودخول الحمائم، من بعض القتل. بدأت الاستعدادات «للتغييرات» التي يتحدث عنها أنصار إيران في المنطقة. ذهب ترمب وجاء بايدن وجلب إلى إدارته أصدقاء علي خامنئي وبشار الأسد، وهذا نصر يُضاف إلى سلسلة انتصارات لا أول لها ولا آخر.
أميركا هذه كانت على وشك الانهيار قبل أسابيع قليلة حسبما «بشّرت» وسائل إعلام تموّلها أذرع «الحرس الثوري» الإيراني. لكنها استعادت عافيتها، على ما يبدو، مع حلول دبلوماسيين كانوا قد تواطأوا مع نظراء لهم من أجل تمرير مذبحة الأسد بالسلاح الكيماوي في غوطة دمشق ولإفلاته من العقاب. عادت الولايات المتحدة في نظرهم قطباً تَرْخص في سبيل كسب وده التضحيات ويسهل قتل مثقفين وباحثين كلقمان سليم، للفت انتباه الأصدقاء الجدد في وزارة الخارجية والبيت الأبيض. نحن هنا، يقول القاتل، وهذا رأس لقمان خرقناه برصاصنا فانظروا إلينا وإلى بأسنا وعودوا إلى المفاوضات كي نريكم كرمنا وحسن ضيافتنا.
لكن لماذا السعي المحموم إلى لفت انتباه الأميركيين في العراق ولبنان واليمن ما دامت واشنطن قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى إحدى ضواحي مدن العالم الثالث، حسب «مثقفي» الممانعة وكتّابها ومحلليها الاستراتيجيين؟ البحث عن منطق في مشروع توسعي، عبث كامل.
المفارقة أن من يقتلهم زبانية «الممانعة» لم يسكنهم يوماً وهْم التحالف مع الولايات المتحدة ولا الاعتقاد بأن ترياق حروبنا ومآسينا سيأتي من الغرب. خذلان الغرب لحلفائه وأصدقائه بل وعملائه قصة تتكرر من دون توقف ولم يعد في هذه البلاد من يشتري هذه الأوهام. قتلى هذا المشروع هم من أدرك مع مواطنيهم أن عبء «حزب الله» بات غير محمول في لبنان. وأن تجنيد شباب لبنانيين لخدمة المشروع الإيراني في سوريا والعراق واليمن وغيرها، يرتدّ كوارث على لبنان واقتصاده وعلاقاته العربية والدولية وهو الفقير إلى الموارد والثروات الطبيعية وإلى الاقتصاد المنتج، بفعل تراث من الممارسات الخادعة للنفس عن «الشطارة» و«التجارة مع الغيب» وما شاكل من مهازل العقل المركنتلي الذي ما إن تضعضع موقع لبنان في منظومته العربية حتى كشف هذا العقل عن وجهه المافيوزي المتحالف مع نظام الزبائنية الطائفية المحميّ من ميليشيات القتل.
المفارقة، إذن، هي أن ضحايا المشروع الإمبراطوري القاتم يريدون ببساطة بلداً مثل باقي بلدان المعمورة. لا يُقتل فيه صاحب رأي أو سياسي أو مواطن من دون أن يجد قاتله ملجأ في جماعته المسلحة الدائمة التوتر والمهجوسة بذعر الحصار والاختناق. بلد لا تنهار فيه الدولة ويظهر «الحاكم الحقيقي» بعد يومين من المظاهرات ليعلن منع التظاهر ويخوّن المحتجين على الفساد ويقدم حمايته العلنية لمافيات السلطة والمصارف والطوائف. بلد لا تُدّمر عاصمته بشحنات نترات أمونيوم جاءت من المجهول وظلت ست سنوات في المرفأ أمام أعين مسؤولين دمجوا الفساد التقليدي مع نيات القتل الجماعي. بلد لا يُمنع فيه القضاء، علناً وجهاراً، من ملاحقة سارقي أموال المودعين ومستوردي الشحنات المتفجرة والقتلة الذين يَظهرون على التلفزة ليهددوا بالمزيد من الجرائم والغارقين في لعبة التنازع على السلطة كرمز لاستئناف النهب العام.
وربما في الواقع اللبناني بعض خلاصات من فشل انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، فالمسألة ليست بباب دوار في واشنطن يخرج منه الصقور لتدخل الحمائم، فتتغير أوضاع بلاد بتغير موظفين من الدرجة الثالثة في مبنى وزارة الخارجية الأميركية. وبلدنا يستحق ألا يكون مزرعة طيور ودواجن لصقور وحمائم واشنطن. كانت انتفاضة «تشرين»، على غرار باقي الثورات العربية، محاولة لانتزاع استقلال وطني وإنجازه. ومصيرها المأساوي لا يختلف عن مصائر بقية الثورات التي ارتطمت بالعنف الأهلي، بصيغته الدينية الجهادية أو الحاملة لنُذر الحرب الأهلية كما في الحالة اللبنانية، وبالاستبداد السلطوي.
وإذا كان بلد يعكس أحلام أهله ويشق الطريق من أجل تحقيقها هو من المستحيلات في لبنان، فلتستمر المجزرة إذن، وليبقَ كاتم الصوت هو صاحب المجد، كما كتب المجرمون على جدار دارة لقمان سليم قبل عام من العثور عليه مقتولاً في جنوب لبنان.
لم تعد من أسرار في لعبة السلطة والدم والاستتباع في لبنان. لم تعد من محظورات وأسماء تقال همساً. لقد أسفر القاتل عن وجهه وكان الوحيد الذي فوجئ بالمشهد الجديد. كل اللبنانيين كانوا يعرفونه منذ عشرات السنين. الاختلاف الوحيد أن جثة لقمان سليم أسقطت آخر قوانين لعبة الاختباء.
|