السبت ٢٣ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تموز ٣١, ٢٠٢٠
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
لبنان في ظلامه الحالك... - حسام عيتاني
خفضت وكالة «موديز» تصنيف لبنان الائتماني قبل يومين إلى مستوى «سي» الأدنى على سلمها الذي يشير إلى التعثر الكامل، وذلك بعد يومين من زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، التي تحولت انتكاسة دبلوماسية إضافية للحكومة اللبنانية.

إجراء الوكالة وزيارة الوزير الذي كرر أن المجتمع الدولي لن يساعد لبنان ما لم تتبنَ السلطات فيه إصلاحات اقتصادية واضحة، يعلنان أن الأزمة اللبنانية لن تجد حلاً في المستقبل القريب، وأن المواطنين الرازحين تحت أعباء الكوارث المتنوعة التي يعانون منها متروكون لقدرهم الأسود.

ثمة كثير ما يقال عن وكالات التصنيف الائتماني الدولية وقابليتها للاستغلال السياسي في الصراعات العابرة للحدود، لكنها في المقابل، تشير خطواتها في الحالة اللبنانية إلى ازدياد عزلة هذا البلد عن البيئة التي انخرط فيها منذ تأسيسه قبل مائة عام، أي البيئة الاقتصادية الغربية ومناخات التبادل التجاري والمالي القائم في قسمه الرئيسي على العلاقات مع «الأسواق الحرة»، بغض النظر عن سلبيات وإيجابيات هذين سواء البيئة والتبادل وانعكاسهما على لبنان. فالسلطة السياسية لم تعمل على إنشاء البدائل الاقتصادية القادرة على تحمّل الانسحاب السريع من منظومة انغمست فيها إلى أقصى حدود الانغماس، ولم تُهيئ اللبنانيين لقبول أشكال مختلفة من العلاقات الاقتصادية.

تخفيض مستوى التصنيف، بهذا المعنى، لا يشير إلى علّة في الآلية المصرفية والمالية العامة فحسب، بل يقول أيضاً إن النظام الاقتصادي - الاجتماعي اللبناني الذي اعتنقته الطبقة الحاكمة منذ عقود، لم يعد يعمل، وإن الشرائح الأكبر من اللبنانيين صارت خارجه، وإن هذه تتجه إلى أشكال أكثر انخفاضاً من النشاط الاقتصادي، حيث يحل المال الورقي والمقايضة بالسلع مكان التبادل الرقمي من خلال المصارف. وفي هذا التحول مزيد من الانعزال عن الاقتصاد العالمي، ما ينعكس سلباً على مستويات معيشة المواطنين ما لم يكن في الوسع اللجوء إلى نظام اقتصادي بديل.

العزلة والتجاهل هما، إذن، العنوانان اللذان سيتعامل بهما العالمان الغربي والعربي مع الكارثة اللبنانية. أما «الشرق» فليس في حقيقة الأمر أكثر من مزحة سمجة لا يعادل افتقارها إلى الواقع سوى الدعوات المضحكة - المبكية إلى «الجهاد الزراعي» واستنبات الخضار على شرفات المنازل كوسيلة لتجنب الجوع (وليس علاج الأزمات المتفاقمة والمتناسل بعضها من بعض).

لكن ماذا عن الإنقاذ الآتي من الداخل، من اللبنانيين أنفسهم؟

بعد انحسار النشاطات الميدانية الاحتجاجية في شهر فبراير (شباط) الماضي بسبب تفشي وباء «كورونا»، ظهر أن النتائج التي حققتها انتفاضة الشبان اللبنانيين في 17 أكتوبر (تشرين الأول) تقتصر على المجالات الرمزية والمعنوية، وأن المنتفضين لم ينجحوا في انتزاع أي تنازل من الجماعة الحاكمة على صعد الإصلاح السياسي ودرء تبعات الانهيار الاقتصادي عن الفئات الأفقر والتصدي للفساد المستشري. استقالة حكومة الرئيس السابق سعد الحريري لم تنتج غير حكومة تساويها أو تفوقها عجزاً.
الهيئات النقابية البديلة لم تستطع احتلال الموقع الذي حاولت الوصول إليه وغرقت في خلافاتها الداخلية والشخصية فيما تكشفت ضآلة أثر «المجموعات الثورية» في الشارع، ناهيك عن ارتباطات بعضها بقوى وأجهزة معادية للانتفاضة. أما النجاح الوحيد في انتخابات نقابة المحامين تبين أنه أقل من ربع نجاح تكفلت خيبات أمل متتالية من أداء الهيئة النقابية الجديدة في نزع غشاوة فرح اللحظة الأولى للانتصار. والأرجح أن نقابة المهندسين، الذين سيجرون انتخاباتهم قريباً، ستحمل خيبة جديدة بفعل الانقسام السياسي - الطائفي بين مؤيدي الانتفاضة.

وبذلك لا يكون الانهيار تفكك بنى الدولة واقتصارها على هيكلها العظمي المكون من مؤسسات القمع والقسر التي لم تتوقف عن إذاقة اللبناني ألوان الذل والهوان والانحياز إلى صف المسؤولين عن الكارثة، بل يكون أيضاً وخصوصاً في عجز المجتمع عن إنتاج البدائل الضرورية الكفيلة بتأمين بقاء المجتمع. بالأحرى، عجز المجتمع هذا عن إنقاذ نفسه بنفسه عبر المبادرات والتحركات التي وصل شكلها الذي اعتمد في 17 أكتوبر إلى نهايته الطبيعية. وأعاد الناشطون اللبنانيون اكتشاف حقيقة تداخل المعطى الطائفي الداخلي بأزمات المنطقة والإقليم وقلة حيلة الداخل حتى لو تعفن ومات جوعاً، أمام البنيتين الطائفية والطبقية الشديدتي الارتباط والولاء للخارج.

انضم لبنان إلى نادي الدول الفاشلة، على المستوى الاقتصادي والمؤسسي، وليس لدى السلطة القائمة ما تصنع غير استمرار نهب المال العام على غرار ما يجري في شأن مشروعي سدّ بسري ومعمل الطاقة في سلعاتا. وفيما يعيش اللبنانيون أياماً من الظلام الحالك - بالمعنيين الحرفي والمجازي - يزيد من وطأته الخوف من جرّ البلاد إلى مغامرة عسكرية في الجنوب، وهذه فكرة تراود بعض الرؤوس، يتأمل العالم مأساتنا موبخاً حيناً ومتثائباً في أكثر الأحيان، مللاً وضيقاً ولامبالاة.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة