الجمعة, 31 ديسيمبر 2010
وحيد عبدالمجيد *
يبدو يوم الانتخاب في بلادنا العربية حزيناً كئيباً وربما مخيفاً، وليس يوم عرس. وعلى رغم أن هذه البلاد ليست فريدة في ذلك، إذ تشاركها دول أخرى حال الاستعصاء الديموقراطي، فقد أصبحت المنطقة العربية في مؤخر أقاليم العالم على هذا الصعيد.
ففي هذه المنطقة وحدها، يبدو الاستعصاء كاملاً لا استثناء فيه، بخلاف أفريقيا جنوب الصحراء حيث شرع عدد من دولها في اللحاق بقطار الديموقراطية عبر انتخابات أدت إلى تداول السلطة، فأصبح فيها رئيس سابق وليس رؤساء راحلين فقط.
وبقيت المنطقة العربية على هذه الحال خلال عام 2010. فلم يحرك أي من الانتخابات النيابية التي أجريت في خمسة من بلادها، مصحوبة بانتخابات رئاسية في واحد منها (السودان) ومحلية في ثان (البحرين)، الركود السياسي. وظلت الطريق مسدودة أمام مشاركة شعوبها في الشأن العام واختيار ممثليها وممارسة حقها، وواجبها أيضاً، في صنع مستقبلها.
فكانت انتخابات 2010 وسيلة لإعادة إنتاج الانسداد السياسي وانعكاساً لهيمنة الدولة على المجتمع وسيطرة السلطة التنفيذية على العمل البرلماني في بلاد تعرف نوعاً من التعدد الحزبي أو السياسي المقيد والمحكوم من أعلى (مصر والأردن والبحرين)، أو ساحة لصراعات ما قبل السياسة والدولة الحديثة في بلدين يهدد الانقسام وحدة أحدهما (العراق) ويضع الثاني (السودان) على أعتاب تقسيم حادث لا محالة.
أعادت الانتخابات البرلمانية إنتاج الأوضاع نفسها، ولكن في صورة أسوأ بدرجة ما، في الأردن ومصر. وجددت الانتخابات البرلمانية في السودان والعراق الخوف على مستقبل البلدين. ولم تكن الانتخابات البرلمانية في البحرين في 23 تشرين الأول (أكتوبر) أفضل حالاً، إذ أجريت في أجواء انقسام مذهبي أثر في شكل مباشر في نتائجها. ولكنها لم تخلُ من حسنات قليلة أهمها أن أكبر منظمات المعارضة (قائمة «الوفاق») فاز بثمانية عشر مقعداً من إجمالي مقاعد مجلس النواب الأربعين. ومع ذلك كان التصويت المذهبي وراء هذه النتيجة، إذ اعتمدت «الوفاق» على دعم المجلس العلمائي وصورة الشيخ عيسى قاسم أكثر مما استندت إلى برنامج سياسي أو رؤية للمستقبل.
كما أن فوز سيدتين في هذه الانتخابات إحداهما بالانتخاب (فاطمة سلمان) والثانية بالتزكية (لطيفة القعود) كان تطوراً إيجابياً يرى بعض المراقبين مثله في الحاق 64 سيدة بالبرلمان المصري عبر نظام «الكوتا» للمرة الأولى منذ عام 1984، وفي استمرار العمل بهذا النظام في الانتخابات الأردنية وفوز إحدى المرشحات خارج إطاره أيضاً.
ولم تكن «الكوتا» النسائية هي الجامع الوحيد بين الانتخابات الأردنية والمصرية اللتين فصلت بينهما ثلاثة أسابيع (9 و28 تشرين الثاني). فقد أعادت الانتخابات في البلدين إنتاج برلمان ملحق بالسلطة التنفيذية يسوده صوت واحد ومزين بغطاء تعددي انحسر فيه مقارنة بالبرلمانين السابقين. وأديرت الانتخابات في الحالتين بطريقة تضمن استمرار هيمنة سلطة الدولة على المجتمع وتكرس ضعف المعارضة وتزيدها تفتتاً، وتنتج مجلساً يسوده نواب خدمات لا نواب عن الأمة، وأصحاب مال وعصبيات ونفوذ محلي وليسوا أصحاب برامج وأفكار ورؤى، سواء انتمت غالبيتهم إلى حزب حاكم، كما في مصر، أو كانوا أفراداً غير مؤطرين كما في الأردن.
وأسفرت الانتخابات في الحالتين عن تراجع تمثيل المعارضة في البرلمانين المنتخبين في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي في كل من الأردن ومصر. وشمل ذلك «تصفير» تمثيل تيار «الإخوان المسلمين». فكان لهذا التيار، الذي يتمتع بمشروعية قانونية في الأردن والمحظور نشاطه رسمياً في مصر، النصيب الأكبر من مقاعد المعارضة في البرلمانين السابقين في البلدين. فقد حصل مرشحو جماعة «الإخوان» المحجوبة عنها الشرعية في مصر على 88 مقعداً في انتخابات 2005 بنسبة 20 في المئة من إجمالي مقاعده، بينما حصل حزب «جبهة العمل الإسلامي» (الذراع السياسية لجماعة «الإخوان») في الأردن على ستة مقاعد في انتخابات 2007 بنسبة 5 في المئة.
ولكن هذا الحزب قاطع انتخابات 2010، فخلا البرلمان الذي نتج عنها من تمثيل لحزب المعارضة الأكبر باستثناء عضو واحد مجمدة عضويته فيه فاز مستقلاً بعد أن ترشح مع ستة من زملائه خرقوا قرار المقاطعة.
وخلا البرلمان المصري المنتخب في 2010 بدوره من تمثيل لهذا التيار على رغم خوض نحو 150 من أعضائه الانتخابات التي أجريت في أجواء أكثر انغلاقاً مقارنة بتلك التي أحاطت انتخابات 2005. فكان إقصاء «الإخوان»، الذين عجزوا عن الاندماج في الحياة السياسية، أحد أهم أهداف الحزب الوطني الحاكم وأجهزة الدولة التي تدعمه في انتخابات 2010. وأتاح إحكام أجهزة الدولة الأمنية والإدارية سيطرتها على العملية الانتخابية تحقيق هذا الهدف، وأكثر منه.
ففي غياب «إخراج» حكيم لمشهد الانتخابات، جاء البرلمان خالياً من المعارضة تقريباً وليس فقط من «الإخوان»، بخلاف توقعات شاعت على نطاق واسع في شأن صفقات مع أحزاب معارضة. فقد انخفض تمثيل المعارضة في البرلمان الذي أنتجته انتخابات 2010 إلى نحو 3 في المئة فقط، بعد أن كانت النسبة 24 في المئة في برلمان 2005.
ولما كانت الانتخابات البحرينية قد أسفرت أيضاً عن تراجع تيار «الإخوان» ممثلاً في جمعية المنبر الوطني الإسلامي إلى ثلاثة مقاعد فقط مقارنة بثمانية في انتخابات 2006، فقد أثير جدل حول ما إذا كان هذا التيار دخل في مرحلة انكماش برلماني على الصعيد العربي بعد التمدد الذي بلغ أوجه بين 2005 و2007. غير أن الإسلاميين الأصوليين ظلوا غالبية في برلمان البحرين الجديد الذين يحتل إسلاميون شيعة وسلف و»إخوان» نحو ثلثي عدد مقاعده، بخلاف البرلمانين المصري والأردني اللذين يخلوان من مثلهم، ومن المعارضة التي صار وجودها فيهما رمزياً.
لذلك، بدا كما لو أن الانتخابات أسدلت الستار في مصر والأردن على مرحلة تنامت خلالها الدعوة إلى تحول ديموقراطي مقترنة بأمل في إصلاحات سياسية قريبة. وإذا كانت الانتخابات في البلدين خلقت إحباطاً على هذا النحو، فقد أثارت الانتخابات البرلمانية والرئاسية المتزامنة في السودان (11 نيسان) والانتخابات البرلمانية في العراق (7 آذار) خوفاً بالغاً على مصير البلدين.
كان واضحا أن الانتخابات السودانية هي الأخيرة في هذا البلد، الذي صار تقسيمه إلى دولتين أمراً مفروغاً منه. وعلى رغم أن هذه الانتخابات لم تكن أفضل حالاً من الناحية القانونية والإجرائية من غيرها، إلا أنها لم تنل إلا القليل من الهجمات التي تعرضت لها الانتخابات المصرية لأن كلاً من شريكي الحكم الشمالي والجنوبي خرج منها بما يريد.
لذلك، ساهمت هذه الانتخابات في تكريس الانقسام وترسيخه، مثلها في ذلك مثل الانتخابات العراقية التي أظهرت مجدداً حجم الهوة التي تفصل بين مكونات المجتمع وأعادت إنتاج الأزمة السياسية التي تعد مشكلة تشكيل حكومة جديدة واحدة فقط من مظاهرها الأكثر وضوحاً.
فقد أكدت الانتخابات العراقية أن الأزمة تتفاقم على نحو يقوّض الأساس التوافقي للنظام السياسي الجديد، الذي أقيم على مشاركة مختلف المكونات عبر حصص معينة لكل منها. ولم يكن لجوء حكومة نوري المالكي إلى أساليب تعسفية لتعديل الأوزان النسبية للكتل البرلمانية باستخدام فزّاعة «رجال النظام البائد» وإجراءات الاجتثاث إلا مؤشراً واحداً على تفاقم الأزمة.
فقد أظهرت الحملات الانتخابية المدى الذي بلغه هذا التفاقم على رغم ما بدا أنه تطور إيجابي في الطابع المختلط الذي تميزت به «القائمة العراقية» من ناحية وانقسام الوسط الشيعي من ناحية ثانية. غير أن هذا التطور الإيجابي ظل ثانوياً في انتخابات شهدت اصطفافات تقليدية على خلفيات مذهبية وعرقية، ونزوعاً إلى التنميط ورفض الآخر والحضّ على كرهه والتحريض ضده والسعي إلى سحقه.
وهنا، التقت الانتخابات السودانية والعراقية على أرضية مشتركة. فالكثير مما شهدته هذه الانتخابات وتلك يصعب إدراجه ضمن الحملات الانتخابية المعتادة، وربما يجوز اعتباره تدريباً على حرب داخلية.
وعلى رغم التحذير من انقلاب عسكري في الخطاب السياسي لكثير من الكتل العراقية، كان سلوك بعضها دالاً على أنها تتعامل مع أصوات الناخبين باعتبارها سلاحاً للانقضاض على السلطة وليس لتداولها سلمياً، وبديلاً عن الدبابات التي كثيراً ما تحركت في شوارع بغداد بالتزامن مع إصدار «البيان الرقم 1». فلا يبقى فرق في الوظيفة، والحال هكذا، بين صناديق اقتراع وصناديق ذخيرة.
ويختلف ذلك جذرياً عن وظيفة الانتخابات في النظام الديموقراطي باعتبارها العملية الرئيسة التي يختار عبرها المواطنون ممثليهم وحكوماتهم، ويعبرون من خلالها عن إرادتهم الحرة، ويشاركون من طريقها في صنع مستقبلهم.
ولذلك تكون صناديق الاقتراع، في هذه الحال، وسيلة لتداول السلطة وليس سلاحاً لمحاولة الانقضاض عليها كما في الانتخابات العراقية، أو لاستدامتها إلى ما لا نهاية كما في الانتخابات المصرية والأردنية.
وهكذا، فما بين انتخابات لإعادة إنتاج السلطة الأحادية وأخرى بديلة عن حرب داخلية، يجرى تكريس فكرة الاستثناء العربي القائلة إن منطقتنا هي الاستثناء الرئيس من التطور الديموقراطي في عالم اليوم.
* كاتب مصري
|