السبت ٢٣ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ٨, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
تفسير الدستور شأننا جميعاً: في الترفّع عن سجال ٍعقيمٍ - شبلي ملاّط
درج السجال العام في الآونة الأخيرة على تجاذب بين الأطراف السياسية في موضوع مَنْ هو مخوّل تفسير الدستور. هذا السجال صحيّ من ناحية لأن أطراف الجمهورية جميعاً، أو تقريباً جميعاً، باتوا يعتبرون أن الدستور هو الفاصل في الخلافات، وهذا موقف صحيح حتى إذا كان كلّ طرفٍ يريد استمالة تفسير الدستور اليه. لكنّ الخطأ الكبير هو في تصوّر السياسيين وجلّ أتباعهم أن كلمة الفصل في الدستور تعود اليه بشكل حصريّ.

هذا خطأ عضال لأن الشأن الدستوري بطبيعته شأن يخصّ جميع المواطنين، والسياسيين من بينهم في السياق المنطقي ذاته. كلّ منا كلبنانيين، كما كل شخص موجود على الأرض اللبنانية ولو كان أجنبياً، مؤتمن على الدستور، يعيش حياته العامَّة بالضرورة على أساس هذه الأمانة. والأمانة يمكن التعبير عنها بشكل مختلف، كمرادفة لحكم القانون، يعني احترام الدستور وما يتفرّع عنه، مواطنين ومسؤولين سياسيين على السواء.

وكان من الناحية النظرية أوضحَ صورةٍ لهذه الأمانة ما عبّر عنه العالم القانوني النمساوي هانس كلسنKelsen بِ’هرم النظام القانوني‘. فالهرم هو حكم القانون، ورأس الهرم هو الدستور.

أمّا من الناحية العملية، فقد انتشرَ بعد الحرب العالمية الثانية النمطُ الأميركي لتطبيق هذه الهرمية في عددٍ كبير من بلدان العالم بتخويل المحكمة العليا الفصل في الخلافات الدستورية، لاسيما ألمانيا في دستورها عام 1949 وفي فرنسا في تحديث دستور الجمهورية الخامسة لإنشاء المجلس الدستوري، وفي المجموعة الأوروبية بإنشاء محكمة العدل الأوروبية، وفي أغلب دول أميركا اللاتينية بعد زوال الديكتاتوريات في نهاية السبعينات، وفي بعض الدول في الشرق الأوسط لاسيما لبنان ومصر. لكن التطبيق العملي للهرم متفاوت.

إذاً هنالك شرخ في الموضوع العمليّ. بعض الدول لا تزال تؤمن برجحان القانون ممثّلاً بما يسنّه البرلمان على أساس الأغلبية، وعدم إخضاع قانون جاء بقرار من أغلبية ممثلي الشعب لنصٍّ أرفع يسمّى دستوراً. هذا هو النمط المعتاد في ما يسمى بدساتير وستمنستر Westminster على القاعدة التي بني عليها النظام الدستوري في المملكة المتحدة، وفي غياب دستورٍ مكتوب يعلو شأناً على قوانين وضعتها الأغلبية. هذا النمط على تراجع في العالم. فالإنتقال النوعي الى محكمة دستورية تقول للمشرّع إن القانون الذي سنّه بالأغلبية باطلٌ لأنه غير دستوري انتقالٌ يتنامى في بقاع العالم. هذا لا يعني أن الهرمية الدستورية المرتبطة بتراث كلسن مخطئة أو ناقصة في أساسها العقائدي المبدئي، فالإتفاق عليها شامل ومطلق بغضّ النظر عن التطبيق.

نحن جميعاً مؤتمنون على الدستور كمواطنين كلاماً وفعلاً ، ومسؤولون جميعاً عن تطبيقه ، إن في الحكومة، أي في الرئاسة وفي الوزارة وفي المجلس النيابي وفي البلديات، أو في "الشارع". في حياتنا اليومية نفسّر الدستور بتطبيقه عشرات المرات. والمثل البسيط على ذلك أننا عندما نسوق سيارة نلتزم بالتوقف عند الضوء الأحمر لأن المخالفة هي مخالفة لقانون السير وقانون السير موضوع من قبل المجلس النيابي يصدر عن رئيس الجمهورية وينشر في الجريدة الرسمية لإعلامنا جميعاً به، ونفسّره بتطبيقنا له كلّ يوم وكلّ ساعة فنقف عند الضوء طوعاً للدستور أو خوفاً من مخالفته.

هذا يعني بالتالي أن الخلاف الحالي على تفسير الدستور خلافٌ لا جدوى منه. فليس المجلس النيابي هو صاحب التفسير حصرياً، وليس رئيس الجمهورية صاحب التفسير حصرياً، وليست المحاكم أصحاب التفسير حصرياً. هذا في المبدأ.

قد يكون مفيداً أن يترجم مبدأ الهرمية الدستورية من الناحية العملية بإعطاء جميع المحاكم سلطة المراجعة الدستورية، والسماح للخلافات على تفسير الدستور الطبيعية ما بين المواطنين والسياسيين أن ترتقي في النظام القضائي الى محكمة عليا على نسق الأميركي. هذا يتطلب تغييراً دستورياً يجعل من المجلس الدستوري محكمة تقوم على تأكيد أو تصحيح القرارات التي ترفع اليها من المحاكم الأدنى درجة في المواضيع الدستورية. لقد تقدم عددٌ من الشخصيات، وآخرهم في هذا الموضوع رئيس المجلس الدستوري الدكتور عصام سليمان، كما رئيس الجمهورية السابق الأستاذ ميشال سليمان، بطروحات مختلفة في هذا المجال، وبعضها أؤيدها كما أختلف مع بعضها. إنما هذا حديث آخر.

الأساس هو أننا كلنا مؤتمنون على الدستور. وحدها العملية الدستورية السياسية المعقّدة كفيلة بإعطاء الأجوبة اليومية على التنافس بين السياسيين في موضوع تفسير الدستور وتطبيقه، من أهمّها الفصل بين السلطات، وهذا الفصل يعني أيضاً أن السلطات الثلاث جميعها مخوّلة التعاطي مع الدستور بما ينصّه من آليات. المواطن جزء لا يتجزأ من هذه العملية.

متى اتضحت هذه الصورة، قد يوفَّر على مناخنا السياسي المضطرب لغطٌ نحن بغنى عنه في أحقّية هذا أو ذاك في تفسير الدستور لأننا جميعاً مؤتمنون عليه ومحقّون في تفسيره، نطبِّقه كل يوم وكلّ ساعة في حياتنا اليومية.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة