السبت ٢٣ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: حزيران ١٢, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
ما أسهل خداع اللبنانيين - غسان العيّاش
"لو يدرك المواطنون في بلدنا كيف يعمل النظام المصرفي والنقدي لاشتعلت الثورة قبل صباح الغد".

هذا القولُ لم يصدر عن مفكّر شيوعي أو قائد يساري، بل هو رأي هنري فورد، القطب التاريخي للصناعة الأميركية وأحد رموز وبناة الرأسمالية الحديثة. وكم ينطبق كلامه هذا على السياسات المالية في لبنان منذ ولادة الأزمة في مالية الدولة، قبل ثلاثة عقود ونصف العقد، وحتى اليوم.

في موازاة استمرار الأزمة وتراكمها وتفاقمها، لم تعمل الدولة على اعتماد سياسات بعيدة النظر تهدف إلى تخليص البلاد واقتصادها من الانجراف نحو الهاوية، بل فضّلت بدلاً من ذلك التسويف وتأجيل الاستحقاقات، عن طريق تخدير الرأي العام وتضليله وبيعه القصص الوهمية والروايات الكاذبة.

خلال تحضير مشروع الموازنة في مجلس الوزراء أدركت الحكومة خطورة إشهار حجم العجز الحقيقي، ليس لأنه يظهرها عاجزة عن الوفاء بوعودها الكبيرة أمام الرأي العام، بل لأنه يجرّدها أيضاً من المصداقية أمام الدول التي عبّرت عن استعدادها للمساهمة في تمويل مشاريع الاستثمار.

راودت المسؤولين عن إعداد الموازنة أفكار جريئة لضبط العجز تضمّنت زيادة الضرائب والتقشّف وتخفيض رواتب القطاع العام. ولما اندفع المتضرّرون إلى الشارع لإحباط هذه التوجّهات، تراجعت الحكومة بسرعة عن أفكارها الجديدة، وقرّرت اللجوء إلى تضليل الرأي العام.

من أبرز طرق التضليل إصدار سندات خزينة بالعملة اللبنانية بفائدة واحد في المئة، فهذا الإجراء يتضمّن ضريبة ظالمة وغير منظورة تلحق بالمواطنين، إنها ضريبة التضخّم. المسؤولون واثقون بأن "الشعب" الذي رفض زيادة الضرائب لن يتنبّه إلى ضريبة التضخّم، وهي أقسى من كل الضرائب والتدابير التي كانت مقترحة.

فأمام إصرار المصارف على عدم الاكتتاب بالسندات الجديدة، تتّجه الأنظار إلى مصرف لبنان الذي، على الأرجح، سيكتتب بالسندات عن طريق خلق النقد.

تمويل الخزينة عن طريق خلق النقد هو أكبر مصادر التضخم. والتضخّم "وحشٌ شرس" يمدّ يده إلى جيوب كل المواطنين فيقتطع من أموالهم، من دون مسوّغ تشريعي أو استئذان. الدول الأوروبية بأسرها حظّرت بشكل مطلق خلق النقد لإقراض الدولة، حرصاً على لجم التضخّم وحماية استقرار الأسعار. وكان قانون النقد والتسليف اللبناني سبّاقاً وصارماً في منع التمويل التضخّمي للدولة فحظر على مصرف لبنان إقراض القطاع العام، بعبارات واضحة وصارمة.

المسؤولون يخفّفون من حجم المشكلة، فيقولون إن مضاعف خلق النقد يختلف بين بلد وبلد وبين زمان وزمان. وان ضعف النمو الاقتصادي في لبنان وتقلّص الدورة الاقتصادية يجعلان مضاعف خلق النقد أقلّ مما هو عليه في الاقتصاديات الناشطة.

التلطّي وراء ضعف الاقتصاد اللبناني كحجّة لتخفيف أضرار هذه الخطوة المرجّحة، لا ينفي سلبياتها الجسيمة:

أوّلاً: النتائج التضخمّية لتمويل الدولة عن طريق الاقتراض من مصرف لبنان، سواء كانت ضعيفة أو قويّة، ستكون سبباً لانتفاخ الكتلة النقدية وتوليد التضخّم. والتضخّم ضريبة صامتة تصيب كل المواطنين، ولا تميّز بين فئة اجتماعية وأخرى.

ثانياً: الليرات الجديدة التي ستتكاثر بكثافة جراء هذا التدبير لا بدّ من أن تربك السلطات، لأنها ستنتهي ودائع جديدة بالليرة اللبنانية في مصارف لبنان، وفي أجواء عدم الثقة المسيطرة في البلاد يقود ذلك إلى زيادة الطلب على العملات الأجنبية. من أجل تخفيف هذا الضغط المحتمل على سوق القطع، وقياساً بالتجارب السابقة، قد تلجأ وزارة المال ومصرف لبنان إلى ابتداع أدوات دين من نوع جديد تشكّل عبئاً إضافياً على خزينة الدولة وميزانية المصرف المركزي.

ثالثاً: مرّة أخرى تظهر نظرة الحكومة إلى المؤسّسات العامّة، وخاصّة المصرف المركزي، بوصفها أدوات لمساعدتها على تنفيذ سياساتها وتخليصها من المآزق والاختناقات، ولا حق لها أن تمتلك سياسات وأهدافاً مستقلة، حتى لو كفل لها ذلك القانون.

رابعاً: إن مصرف لبنان، إذا أقدم على هذه الخطوة، يخالف بصورة فجّة وصارخة قانون النقد والتسليف، ويتنكّر للدور الذي أنيط به بحكم القانون كحارس للنقد الوطني وضامن لسلامة الاقتصاد.

نائب سابق لحاكم مصرف لبنان


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة