مع اعلان المجلس الاعلى للقوات المسلحة في مصر الثلثاء تشكيله لجنة لصياغة وتعديل بعض مواد الدستور التي سترسي عمليا اسس "مصر الجديدة"، كثرت الاشادات برئيس اللجنة طارق البشري "الفقيه القانوني"، "نصير العدالة والحرية" و"ذي الاسهامات الفكرية والتاريخ المهني المميز". وثمة من رأى فيه "احدى قمم الفكر في مصر والعالم العربي والاسلامي" و"واحدا من قلة يحظون باجماع كامل على الاحترام والتقدير حتى ممن يختلفون معه فكريا".
في المبدأ، يعتبر تكليف شخص ذي مواصفات كهذه رسم ملامح الاصلاحات السياسية وانتخاب رئيس للجمهورية ومجلسي الشعب والشورى بحرية ونزاهة، بعد 30 سنة من حكم "الرجل الواحد"، انتصارا لثورة الشباب التي فاجأت العالم وكتبت لمصر مستقبلا جديدا.
ولكن، عمليا، ثمة تحفظات تعكر صفو هذا الانتصار، مع خروج اصوات مستقلة تلقي الضوء على تاريخ هذا الرجل "العلماني الذي تحول الى الاسلام"، واطلاق عدد من الناشطين الاقباط حملة على اللجنة عبر بيانات في موقع "فايسبوك" وتقديمهم بلاغات الى النائب العام يتزعمها نجيب جبرائيل مستشار بطريرك الاقباط الارثوذكس والكرازة المرقسية في مصر الانبا شنودة الثالث، بدعوى ان البشري ذو توجهات دينية، واحد كوادر تيار الاسلام السياسي، بل "احد مروجي المرجعية الدينية"، معترضين في الوقت عينه على مشاركة جماعة "الاخوان المسلمين" ومستنكرين عدم تمثيل الاقباط في اللجنة.
كذلك، دعا مثقفون مصريون الى استلهام دستور 1923 الذي اعتبر المصريين متساوين في الحقوق المدنية والسياسية خلافا للدستور الحالي الذي تنص مادته الثانية على ان "الاسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشرعية الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وابدت جمعيات حقوق المرأة قلقها من اختيار البشري، بحجة انه "لم تظهر للرجل من قبل اية مبادرات عن مساواة الرجل والمرأة". وفي السياسة، ثمة من ذهب الى اعتبار اختيار هذا الرجل مغازلة من القوات المسلحة لـ"الاخوان المسلمين" لارضائهم، وهو ما ذكر البعض بالسيناريو الذي حصل بعد ثورة 1952 عندما تحالف الجيش مع "الاخوان"، ثم عاد واستغنى عنهم.
فمن هو "أبو الدستور" الجديد؟
الثلثاء الماضي، اعلن المجلس الاعلى للقوات المسلحة تشكيل لجنة لتعديل الدستور الذي علق العمل به، من اجل تعديل بعض مواده وتحديد القواعد لاستفتاء شعبي، وطلب منها الانتهاء من عملها خلال عشرة ايام كي يتسنى له اجراء استفتاء شعبي عليها قبل مرور شهرين. واختار المجلس المستشار البشري رئيسا للجنة وعضوية اربعة من رجال القانون، هم رئيس قسم القانون العام في جامعة القاهرة عاطف البنا واستاذ القانون الدستوري في جامعة القاهرة محمد حسنين عبد العال والمحامي صبحي صالح العضو السابق في مجلس الشعب عن جماعة "الاخوان المسلمين" واستاذ القانون في جامعة الاسكندرية محمد باهي، اضافة الى ثلاثة مستشارين في المحكمة الدستورية العليا، هم ماهر سامي يوسف (قبطي) وحسن بدراوي وحاتم بجاتو. وفي اجتماعها الاول الاربعاء، اتفقت اللجنة مبدئياً على المواد الدستورية الست المطروحة للتعديل، فضلاً عن البحث في تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية وكذلك قانوني مجلس الشعب والشورى في ما يتعلق بالعملية الانتخابية. وفي ختام الاجتماع الثاني للجنة امس، تعهد البشري ان تضمن التعديلات نزاهة العملية الانتخابية، سواء الرئاسية، او النيابية، بما يضمن تحقيق حكم ديموقراطي سليم.
مفكر وقانوني يعتبر البشري مفكراً ومؤرخاً، وأحد ابرز القانونيين المصريين المعاصرين. تولى منصب النائب الاول لرئيس مجلس الدولة، ورئيس للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع سنوات، وترك ارثاً من الفتاوى والآراء الاستشارية التي تتسم بالعمق، وهي لا تزال تشكل مرجعاً لكل من الادارة والقضاة والقانونيين عموماً. ولد في الاول من تشرين الثاني 1933 في حي الحلمية بمدينة القاهرة في اسرة البشري التي ترجع الى محلة بشر في مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة شمال القاهرة. عرف عن اسرته انشغال رجالها بالعلم الديني والقانون، اذ تولى جده لابيه سليم البشري شياخة الازهر، وكان والده المستشار عبد الفتاح البشري رئيس محكمة الاستئناف الى حين وفاته عام 1951، كما ان عمه عبد العزيز البشري اديب. تخرج عام 1953 من كلية الحقوق في جامعة القاهرة، التي درس فيها على ايدي فقهاء القانون والشريعة الكبار، وعيّن بعدها في مجلس الدولة الى حين تقاعده عام 1998 من منصب نائب اول لمجلس الدولة ورئيس الجمعية العمومية للفتوى والتشريع.
شباب علماني وعن شبابه العلماني يقول في احدى مقابلاته: "بعد تخرجي ونتيجة لقراءاتي، كانت علاقتي بالعلمانية انني اقرأها من دون ان اعاديها، لكن الكتابات العلمانية الفجة او المغالية كنت اشعر بشيء من الغضاضة نحوها، ولم يكن في ذهني ان هذا ضد الاسلام... وقويت قراءات باللغة الانكليزية، وكان لدي إلمام بالتاريخ الاوروبي السياسي وبحركات السياسة الموجودة، وتعمقت هذه المعرفة بالتكوين الفكري الفلسفي والاقتصادي وخرجت من مجموع هذه القراءات علماني الفكر السياسي...".
تحوّل نحو الإسلام وشكّلت هزيمة 1967 تحولاً في حياته الفكرية، وذهب الى تقديم مكانة الامة والجماعة على مكانة الجماعة الوطنية التي اطلقتها حركة التحرر المصرية مع سعد زغلول والوفد، واثار هذا التطوّر الاسلاموي التوجه حفيظة كثيرين. واول ما كتبه في هذا الاتجاه مقال "رحلة التجديد في التشريع الاسلامي". وروى بنفسه في حوار آخر ان لحظات تحوله من العلمانية الى الاسلام السياسي كانت بعد هزيمة 1967 التي جعلته يفكر ويسأل نفسه عن مسلّماته واسباب الهزيمة، وبدأت قراءاته وافكاره تختلف. فبعدما كان تركيزه منصباً على الادب العربي والادب الاجنبي والمسرح والقصة، فقد اهتمامه بالمتابعة الادبية و"صرت اشعر بأنها لا تغذيني ولا تجيب عن الاسئلة التي في ذهني". وبدأ يهجر العلمانية. ففي رأيه ان العلمانية حينما تقول له استقل سياسياً واقتصادياً تفقده الهوية وارادة الاستقلال، من هنا بدا له ان "الفكر العلماني في مأزق" لانه يؤدي الى تجريد الانسان من هويته المرتبطة بعقيدته وحضارته، بالاضافة الى انها "مناقضة لقيم الديموقراطية "لان الديموقراطية في النهاية "تكوينات شعبية لها استقلال ذاتي.
دعوة الى العصيان للبشري مؤلفات في الفكر والقانون والتاريخ، ابرزها "الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952"، و"المسلمون والاقباط في اطار الجماعة الوطنية". وعام 2006 اصدر كتابا عنوانه "مصر بين العصيان والتفكك" هو عبارة عن مقالات صدرت له واعتبر فيها ان العصيان المدني فعل ايجابي يلتزم عدم العنف، ويقوم على تصميم المحكومين على ان "ينزعوا غطاء الشرعية تماما عن "حاكم فقد شرعيته فعلا منذ زمن. وله سلسلة كتب "في المسألة الاسلامية المعاصرة"، بينها "ماهية المعاصرة" و"الحوار الاسلامي العلماني"، و"الملامح العامة للفكر السياسي الاسلامي في التاريخ المعاصر".
متحمسون ومتحفظون يقول متحمسون له ان اختيار البشري رئيسا للجنة هو بمثابة رسائل متعددة الاتجاه من الادارة العسكرية الحالية، و"دليل على رغبتها في صوغ مستقبل" مصر على نحو يتلاءم وطموحات من قاموا بالثورة وآمنوا بها. ويصفه هؤلاء بأنه "صمام امان" لما عرف عنه من مواقف انحاز فيها دوما الى الحريات العامة والعدالة بمفهومها الواسع.
ويذكر كتاب صحافيون بأن هذا الرجل الذي كان على خصام مع النظام السابق دعا طوال السنوات الاخيرة كل قوى الشعب الى التركيز في حربها على النظام على اربعة مطالب رئيسية خطوة اولى على طريق التغيير، وهي الغاء حال الطوارئ، والافراج عن جميع المعتقلين السياسيين، واطلاق الحريات العامة، واخيرا اعادة الاشراف القضائي الكامل على العملية الانتخابية. ويستند آخرون الى تاريخه، ليطمئنوا الى ان البشري يطمح الى ان يخلده التاريخ من زاوية انه الشخص الذي سيشرف على دستور ينقل مصر الى المستقبل. وفي المقابل، يستند منتقدون الى آرائه وكتاباته لتبرير مزاعمهم انه يريد مصر دولة دينية على طريقة اقرب الى النموذج الايراني، ويقولون انه غير مؤمن بحقوق مواطنة متساوية لجميع المصريين، وهو ما يتناقض مع التزام قادة الجيش "دولة مدنية، دولة لجميع المصريين".
كذلك يأخذ عليه ناشطون اقباط موقفه من الكنيسة، وينسبون اليه قوله ان الكنيسة "دولة داخل دولة" باعتبار انها لا تنفذ احكام الزواج والطلاق التي تتعارض مع شريعتها، وتقوم بتعداد اتباعها بوسائل بعيدة من الجهاز القومي للتعبئة والاحصاء.
الى ذلك، لفت الاتحاد القبطي الى ان "وجود المستشار سامي يوسف احد نواب رئيس المحكمة الدستورية العليا لا يعد تمثيلا للأقباط لان لا صلة له بالشأن القبطي وهو ليس سوى رجل قانون، في حين ان هناك تمثيلا سياسيا واضحا في اللجنة للاخوان المسلمين من خلال صبحي صالح، فضلا عن ان رئيسها طارق البشري معروف عنه توجهاته الاسلامية". بالنسبة الى البشري، الامر محسوم، ففي ما يتعلق بتعديل المادتين الاولى والثانية من الدستور في شأن المواطنة والشريعة الاسلامية، هذا امر غير مطلوب لان مصر دولة اسلامية، كما ان تغيير المادتين ليس محور نقاش اصلا، و"المطلوب من اللجنة تغيير المواد التي تتعلق بسلطات الحكم" من رئاسة ومجلس شعب وشورى.
في مصر، ومعها العالم العربي يتذكر كثيرون هذه الايام الحقوقي المصري الشهير عبد الرزاق السنهوري الذي كتب دستوراً لمصر في عهد محمد نجيب، قبل أن يطيح عبد الناصر ورجاله نجيب ودستوره. وبعد ذلك بسنوات، وجد عامل مصري الاوراق الاصلية لهذا الدستور بين المهملات في احد شوارع القاهرة، فاشتراها الكاتب صلاح عيسى ونشرها في كرّاس... للتاريخ! مع بدء العد العكسي لدستور البشري، يأمل كثيرون في الا تتكرر تجربة السنهوري، أياً تكن التحفظات التي سيسجلونها عنه...
|