الجمعه ٢٢ - ١١ - ٢٠٢٤
بيانات
التاريخ:
شباط ٢, ٢٠١٩
المصدر:
جريدة النهار اللبنانية
تحدّي تعريف التطرّف العنيف - عمر نشّابة
استجابةً لدعوة الأمم المتّحدة الموجّهة إلى الدول الأعضاء لبلورة استراتيجيّةٍ وقائيّةٍ للتطرّف العنيف عام 2016، سارعت الحكومة الّلبنانيّة إلى تلبية النداء. يكمن عنصر أساسيّ في هذه الاستراتيجيّة تحديدًا في تعريف التطرّف العنيف بغية عدم الخلط بينه وبين مفاهيم أخرى مثل التشدّد، والأصوليّة، والتعصّب، ولا سيّما أنّه من السهل الربط خطأً بينه وبين ديانةٍ محدّدة (الإسلام)، أو إيديولوجيّة (الّلا سلطويّة، تفوّق العرق الأبيض، اليسار المتشدّد، ألخ...). وفي حين يبدو التعريف الّذي اقترحته الحكومة الّلبنانيّة واعدًا، فهو بحاجةٍ إلى مزيدٍ من البلورة لتفادي أي التباس ولترشيد عمليّة صنع السياسات. فأي محاولة جديّة وذات مصداقيّة لمعالجة التطرّف العنيف تستدعي تعريفًا أكثر اتّزانًا، يتخطّى مجرّد حصر الإرهاب بما رشح عن عمليّة تشاركيّة وتشاوريّة.
يحيط شاغلان اثنان بعمليّة تعريف التطرّف العنيف. ويتمحور أوّلهما حول الرابط الّذي تقيمه الأمم المتّحدة بين التطرّف العنيف والإرهاب، من خلال الإضافة التالية "في كلّ الحالات الّتي يفضي فيها إلى الإرهاب" الّتي أُلحِقت بمفهوم التطرّف العنيف ضمن استراتيجيّتها العالميّة لمكافحة الإرهاب. ويطرح هذا الرابط إشكاليّةً لأنّ أعمال التطرّف العنيف لا تفضي جميعها إلى الإرهاب. على سبيل المثال، يمكن للمتطرّفين العنيفين أن يعملوا بشكلٍ جماعيّ، وبدافعٍ عقائديّ، وأن يكون لهم أهداف ووسائل محدّدة، وفي مثل هذه الحالات يفضي العنف المتطرّف على الأرجح إلى الإرهاب، ولكن، يمكن أن ينجم التطرّف العنيف أيضًا عن أعمالٍ فرديّة مدفوعة بوقائع ظرفيّة وأقلّ تأثّرًا بإيديولوجيّة معيّنة. في هذه الحالات، قد لا يفضي التطرّف العنيف إلى الإرهاب. ولا بد من التشديد على هذا الفارق، لتوضيح أنّ الأعمال الّتي تُنسَب إلى التطرّف العنيف والإرهاب قد تتداخل في بعض الحالات ولكن ليس في جميعها.
ويتمحور الشاغل الثاني حول تعريف الحكومة اللبنانيّة للتطرّف العنيف في استراتيجيتها. وبحسب الاستراتيجية الوطنية لمنع التطرّف العنيف: "فالتطرّف العنيف هو إشاعة الكراهية الفردية والجماعية التي قد تؤدّي إلى العنف المجتمعي، ولاسيّما رفض التنوّع والعصيان، واستخدام العنف كوسيلةٍ للتعبيرِ والتأثير، وانتهاج سلوك يهدّد القيم المجتمعيّة الناظمة للاستقرار الاجتماعي".
وفي حين يتضمّن هذا التعريف عناصر ملائمة، فهو يستدعي مزيدًا من الشرح والتوضيح. على سبيل المثال، ليس جليًّا ما يُعنى بـ"رفض التنوّع والعصيان". وبعبارةٍ أكثر دقّة، هل "الرفض" مُضاف إلى كلا "التنوّع" و"العصيان"، وهل يُشار بهذا المصطلح الأخير إلى العصيان المدني أيضًا؟ ثانيًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن استخدام العنف كوسيلة للتعبير لا يفضي دائمًا إلى التطرّف العنيف (مثلًا استخدام العنف للتعبير عن رفض الاحتلال الأجنبي). ثالثًا، تدعو الحاجة إلى تحديد "القيم المجتمعيّة الناظمة للاستقرار الاجتماعيّ" بدقّةٍ.
ورغم أنّ لبنان قد سبق أن وضع تعريفًا قانونيَّا للإرهاب عام 1958 شأنه في ذلك شأن معظم الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتّحدة، يبدو أنّ التعريف العملي الّذي وضعه للتطرّف العنيف غير كافٍ. ويشير المصطلح بحدّ ذاته إلى درجة محددة من عمل معيّن، ولكنّه لا يصفه بشكلٍ دقيق. ويتجلّى ذلك بوضوح في واقع أنّ تعريف تدابير منع التطرّف العنيف ضعيفٌ في معظم الدول، إذ أنّه غالبًا ما يخفي نيّةً مبطّنة باستخدام تدابير منع التطرّف العنيف لقمع المعارضة السياسيّة أو الانشقاق العقائديّ. وفي الكثير من هذه الدول، استُعين بتشريع مكافحة التطرّف العنيف لاستهداف صحافيّين، أو مجموعات دينيّة، أو ناقدين لسياسة الدولة.
ولهذه الغاية أقترح اعتماد التعريف التالي للتطرّف العنيف في السياق اللبناني: "أشخاص أو مجموعات متعصّبة وعدائيّة، تفيد من النزاعات والحروب، وتشارك في هجوماتٍ تنطوي على اعتداءاتٍ وحشيّة مسلّحة تهدف إلى إلحاق الأذى بالآخرين أو إهانتهم أو إبادتهم، أو تخطّط للمشاركة في مثل هذه الاعتداءات، وتكون في بعض الحالات مدفوعة من تفاسير لإيديولوجيّة دينيّة أو سياسيّة." ولا بد من فهم هذا التعريف ضمن إطار سياق التطرّف العنيف الّذي يغطّي طيفًا بأكمله، يبدأ من الأفراد أو مجموعات الأشخاص الّذين يشاركون في الأعمال المذكورة أعلاه، ليشمل مروحةً من الدوافع الّتي تحرّك هؤلاء الأفراد أو مجموعات الأشخاص الذين تظهر عليهم سمات التطرّف العنيف، والّتي تتضمّن القناعات الظرفيّة كما العقائديّة. ويتعيّن أن ترتكز استراتيجيّات منع التطرّف العنيف الفعّالة على تشخيصٍ سليم وفهم دقيق للتطرّف العنيف، يأخذان بعين الاعتبار السياقات الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة - الاقتصاديّة. ويبدو أوّلاً أنّ التطرّف العنيف مدفوعٌ من الكراهية؛ أي التعصّب الديني والاجتماعيّ والثقافيّ، وفي بعض الأحيان من عقيدة تقبل العنف بأشكاله القصوى ضدّ أشخاصٍ آخرين لا يعتنقون الأفكار أو الهويّة أو الثقافة نفسها، أو تشجّع عليه. ثانيًا، يبدو الرابط بين العنف والتطرّف ثابتًا، ويتّسم المتطرّفون العنيفون بالتشدّد، أي أنّهم متعنّتون، ولا يقبلون التفاوض، وينبذون الحلول السلميّة للنزاعات. ثالثًا، يشيع التطرّف العنيف في مناطق النزاع، حيث يكون مدفوعًا بشدّةٍ من عقائد تقوم على تفاسير غير تقليديّة للدين والثقافة، وحيث فقد الناس أيّ أملٍ بقدرة الحكومات الديموقراطيّة على تلبية حاجاتهم الأساسيّة. ولا ينتمي المتطرّفون العنيفون بالضرورة إلى منظمةٍ معيّنة، ولكن الأرجح أنّهم قد سبق أن أقاموا اتصالًا مباشرًا أو غير مباشرٍ مع متطرّفين آخرين أو مع مجموعة متطرّفة محدّدة تدعو إلى التطرّف العنيف. ويجدر التنويه أخيرًا أنّه على الرغم من أن أعمال التطرّف العنيف قد تفضي إلى تشجيع الأعمال الإرهابيّة أو إلى تكرارها، وأنّها قد تعتبر بحدّ ذاتها "جريمة إرهابيّة"، فهذا قد لا ينسحب على جميع المتطرّفين العنيفين.
ويتّضح من الوصف النمطيّ للمتطرّفين العنيفين أنّهم يتشاطرون بعض الخصائص: فهم متعصّبون، وعدائيّون، ويفيدون من النزاعات والحروب. ويتميّزون باستعدادهم للمشاركة في أعمالٍ تفضي إلى اعتداءٍ وحشيٍّ مسلّح أو للتخطيط لمثل هذه الأعمال، وغالبًا ما يكونون مدفوعين بايديولوجية دينيّة أو سياسيّة. وفي الواقع، يمكن تصنيف المتطرّفين العنيفين ضمن فئاتٍ ثلاث.
الفئة الأولى منهم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإيديولوجيّة، وتضمّ الأفراد المرتبطين بمنظّماتٍ إرهابيّةٍ معروفةٍ، ما يسهّل التعرّف إليهم بسبب وضوح أهدافهم، وعقيدتهم، والوسائل الّتي ينتهجونها. هذه الفئة جماعيّة أكثر وتضمّ متطرّفين عنيفين يعتنقون على سبيل المثال عقيدة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ويتّخذون من القاعدة مرجعًا للإرشاد (الديني). وتقوم أهداف كل من كتائب عبد الله عزّام وعصبة الأنصار على إنشاء دولةٍ إسلاميّة وإبادة "الكفّار". ولا تترك المجموعات المتطرّفة العنيفة ضمن هذه الفئة أيّ مجالٍ للمواقف المعتدلة. فسرديّتها المتشدّدة تتمحور حول النزاع العنيف ضد كلّ من يعارض أيديولوجيتها، بما في ذلك الدولة والمؤسّسات الدينيّة وأنصار العلمانيّة في المنطقة العربيّة والغرب. الفئة الثانية من المتطرّفين العنيفين في لبنان هي أقلّ ارتباطًا بالأيديولوجيات وتتألّف بشكلٍ أساسيّ من منشقّين عن الميليشيات اللبنانيّة والأحزاب السياسيّة. وما من تحديدٍ جليٍّ للمنتمين إلى هذه الفئة على غرار الفئة السابقة، كما أنّهم لا يتّبعون التعليمات الصادرة عن زعمائهم السياسيّين بصرامة. غير أنّهم يمثّلون اتجاهًا متطرّفًا ضمن مجتمعاتهم. وتظهر على المنشقّين عن الميليشيات والأحزاب السياسيّة علامات التعصّب الديني، والاجتماعيّ، والثقافيّ، بالإضافة إلى طموحاتهم بإبادة أخصامهم بوحشيّة. فمؤيّدو هذا النوع من التطرّف العنيف هم إمّا مقاتلون سابقون شاركوا في الحرب الأهليّة وأعفي عنهم بموجب قانون العفو العام الصادر عام 1990، أو شباب تحرّكهم البروباغاندا الدينيّة والسياسيّة. وتشمل الأمثلة الأخيرة عن هذه الفئة من التطرّف العنيف الاعتداءات العنيفة الّتي تعرّض لها تلفزيون الجديد عقب انتقاده لأحد الزعماء السياسيّين؛ والتوتّر الطائفيّ/الديني في جبيل (لاسا)؛ وخطاب الحقد والّلغة الّلاذعة الّتي يستخدمها مؤيّدو بعض المجموعات السياسيّة/الطائفيّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ.
أمّا الفئة الثالثة من التطرّف العنيف فلا تتّصل بأي إيديولوجيّة وهي تنبع من المبادرات الفرديّة والظرفيّة. وتتضمّن مرتكبي أعمال العنف المتفرّقة، كما أنّ تحديدها هو الأقلّ وضوحًا. والواقع أنّ هؤلاء المرتكبين يبدون غير مستقرّين ولا يدينون بالولاء لتيّارٍ سياسيٍّ محدّد، كما أنّهم قد ينتمون إلى أي مجموعةٍ دينيّة. غير أنّ مرتكبي هذا النوع من الأعمال العنفيّة يثيرون الهلع الاجتماعيّ. فقد أدّى تدفّق الّلاجئين السوريّين إلى لبنان قبل ست سنوات إلى تصاعد ردّات الفعل العنصريّة والمعادية للأجانب والعنيفة في أجزاءٍ مختلفة من البلد. وغالبًا ما كانت ردّات الفعل العنيفة هذه لفظيّةً واقتصاديّةً بطبيعتها، إلّا أنّ وتيرة حوادث التطرّف العنيف الّتي تستهدف الّلاجئين والعمّال السوريّين قد تسارعت منذ بدء الاشتباكات بين الجيش الّلبناني والمجموعات المسلّحة على الحدود مع سوريا، وبدأ بعض الّلبنانيّين بإظهار تأييدهم لمثل هذا النوع من التطرّف العنيف.
وتدعو الحاجة إلى بلورة فهمٍ أكثر تفاعلاً للأسباب والظروف الّتي تفاقم التعصّب الديني والاجتماعي والثقافي بالإضافة إلى استخدام وسائل التعبير الوحشيّة والعنيفة، وذلك بحسب أنواع التطرّف العنيف. وتبيّن هذه النقاط الأهميّة القصوى الّتي يتعيّن تعليقها على الوضوح عند بلورة مفهوم التطرّف العنيف في السياق اللبنانيّ، سيّما أنّ هذه التعاريف سوف تشكّل مرجعيّةً عند صياغة السياسات المستقبليّة بشأن القضايا المتّصلة بتهديد التطرّف، أو تنفيذها.
محلل في مجال العدالة الجنائية وحقوق الإنسان
(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات يعدها المركز اللبناني للدراسات بدعم من سفارة سويسرا حول منع التطرف العنيف في لبنان).
الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك
اطبع الكود:
لا تستطيع ان تقرأه؟
جرب واحدا آخر
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة