الجمعه ٢٢ - ١١ - ٢٠٢٤
بيانات
التاريخ:
كانون الأول ٨, ٢٠١٨
المصدر:
جريدة النهار اللبنانية
المأزوميّة الراسخة ومكر التاريخ - كمال بكداش
الحلقة الثانية والأخيرة من مقال كمال بكداش أمس الأول الخميس 6-12-2018: مستقبل الصيغة اللبنانية - "العائلات الروحية" كاسم مستعار".
-5-
لا يتعارض ما تقدّم حول توقّع استمرارية الصيغة، في المستقبل المنظور على الأقل، مع الإقرار الذي يجمع عليه الناس والسياسيون على السواء بتأزّم تطبيقها منذ ما بعد الطائف وتفاقم هذا التأزّم منذ اغتيال رفيق الحريري وما أعقبه من تحولات.
لقد أُرسيَ في ما بعد الطائف وبرعاية سورية توازنٌ غير متوازن في مؤسسات الحكم تغلُب فيه القوى السياسية الممثّلة للطوائف الإسلامية (المستقبل، أمل، جنبلاط، حزب الله) فيما تتهمّش فيه الطوائف المسيحية التي لم تعد تملك أصلاً "قوى" سياسية نافذة وفاعلة (عون في المنفى، وجعجع في السجن)، وبات ينطق بإسمها "شخصيات" يسهل إستتباعها إلى هذه القوة الإسلامية أم تلك، أو إلى الوصي السوري مباشرة. وأُرسيَ كذلك، وبالرعاية السورية نفسها، "تقسيم وظيفي" يتولى فيه حزب الله مهام مقاومة الإحتلال الإسرائيلي ومسؤولية الأمن في المناطق التي يتواجد فيها، فيما تتولى القوى الإسلامية الثلاث الأخرى (المستقبل، أمل، جنبلاط) و"حلفاؤهم" المسيحيون مهام إدارة "الدولة"، ولاسيما تقرير كيفية تخصيص مواردها المالية – التي تعاظمت بالديون والقروض والهبات والمساعدات... – على مشاريع الإعمار والإنماء في المناطق، وكذلك كيفية "ملء الشواغر" في الوظائف بالمحازبين (الذي أفضى في نهاية المطاف إلى الإخلال بـ"التوازن الطائفي" في الإدارة).
لقد انهار هذا التوازن اللامتوازن وهذا التقسيم الوظيفي باغتيال رفيق الحريري وإنسحاب القوات السورية من لبنان. ولوهلة حاولت القوى السياسية الإسلامية في انتخابات 2005 أن تحافظ على هذا التوازن في خشية جماعية من عواقب تنامي الصوت المطالب بـ"الحقوق المسيحية"، وذلك باتحاد هذه القوى في تحالف رباعي أظهرها بمظهر قرابة عائلية مع قبيلة حاشد. وبالرغم من قانون انتخابي جائر بحق المسيحيين حقَّقت قواهم السياسية التي استعادت نشاطها العام (التيار العوني، القوات اللبنانية، الكتائب...) نتائج طيبة سوف يؤرَّخ بها، على ما يُعتقد، كبداية لانفكاكها التدريجي عن الاستتباع للقوى السياسية الإسلامية، ولسعيها إلى إرساء توازن سياسي جديد في مؤسسات الحكم.
وبالإضافة، أطلقت المطالبة بـ"الحقيقة والعدالة" في قضية اغتيال الحريري، ومن ثم عواقب حرب تموز عام 2006 وصولاً إلى "غزوة المدينة" عام 2008، انشقاقاً لا سابق له ولا أعمق بين الجماعتين الإسلاميتين، السنة والشيعة، وَضَع التوازنات السياسية السابقة بينهما في مهب الريح. ولقد بَزَغَ من شقوق هذا الإنشقاق "تفاهم" لم يتصوّره أحد بين قوتيْن نافذتين، حزب الله والتيار العوني، آذَنَ بما يتعدّى التفاهم السياسي إلى تحالف جماعتيْن طائفيتيْن، الشيعة والمسيحيين. وبهذا التفاهم وذاك التحالف طوى التاريخ التطبيق اللامتوازن للصيغة ما بعد الطائف وافتتح حقبة جديدة من تطبيقها ما بعد الانسحاب السوري من لبنان.
وبالفعل أخذت المسيحية السياسية منذ ما بعد 2005 – 2006 تستعيد تدريجاً، بجهودها الذاتية وقوة دفع التفاهم بين التيار العوني وحزب الله، مكانتها في مؤسسات الحكم والإدارة. وصاحبَ هذا التغيّر في الميزان السياسي تنامي دور حزب الله ما بعد حرب تموز 2006 في الشؤون السياسية المحلية وإصراره منذ هذا التاريخ على المطالبة، المشروعة بطبيعة الحال، بالمشاركة في الشؤون الحكومية من خلال "حكومة وحدة وطنية" تضمُّه وتضم حلفاءه في الطوائف الأخرى. وبالطبع سوف تستدعي هذه المشاركة المستجدّة تقاسماً جديداً للنفوذ بينه وبين حركة أمل في تمثيل الشيعة داخل الحكومة والإدارة.
كان من المحتّم أن تُترجم هذه التغيرات في الموازين السياسية في مؤسسات الحكم، وذلك في مواجهة "حكومة أكثرية برلمانية" قائمة عاندت في الاستجابة لها بتشجيع ولا ريب من دول خارجية. وبغياب "ضابط إيقاع" سياسي كان يؤدّيه الوصي السوري بكل هيبته المحصّنة بالقوة العنفية، لجأ حزب الله إلى خضَّة أيار 2008 التي أسفرت، في نهاية المطاف، إلى اتفاق الدوحة. والحقيقة المعلومة أن هذا الاتفاق كرّس شكلاً جديداً لتطبيق الصيغة في تشكيل الحكومات، وذلك بالانتقال من "حكومات أكثرية من أكثريات الطوائف" إلى "حكومات إئتلافية - توافقية" يأتلف فيها كل ما يمكن من قوى فاعلة وأقل فاعلية وملحقة بما يشبه استنساخ تكوين المجلس النيابي أو تمثيل المجلس في الحكومة بالعينة المطابقة، ولا تتخذ قراراتها إلا بالتوافق.
لقد أجهز هذا الشكل الجديد لتطبيق الصيغة على إمكان وجود "حَكَم نهائي" في ممارسة الحكم. فقد بات رؤساء الحكومات والجمهورية، في ظل المبدأ الجديد، قاصرين عن تأدية هذا الدور، وخاصة في تأليف الحكومات. وقد حاول حزب الله، بما يملك من "فائض القوة"، أن يؤدي هذا الدور من وراء ستار (يخطط ويوكل إلى غيره التنفيذ)، ولكن خصوماته السياسية حالت بالطبع أن يؤدي في الآن نفسه دوريْن متعارضين: "الخصمُ والحكمُ".
ذلك هو، على ما يبدو، بعض الوجوه السياسية لتأزّم أو اعتلال تطبيق الصيغة اللبنانية في شكلها الجديد الإئتلافي - التوافقي. فهل يحفّز هذا الإعتلال وما يصاحبه من أعراض الشلل، الجزئي أو شبه التام، التي تنتابها دورياً، على التفكير - مجرد التفكير - بتجاوزها؟
-6-
إذ ألزم المرء نفسه بتوصيف ما هو كائن وما يمكن أو يُحتمل أن يكون، ونحّى جانباً رسم ما يجب أن يكون أو يرغب أن يكون، فالجواب على السؤال أعلاه هو ببساطة النفي. فما من قوى اجتماعية – سياسية متوافرة في لبنان لطرح هذا التجاوز للصيغة وحمل عبء العمل من أجل تحقيقه. ولا تبدي القوى السياسية النافذة في الطوائف أي استعداد للتفكير خارج إطار "النموذج الإرشادي" للصيغة. غير أن الأدعى إلى استبعاد هذا الإمكان هو ما يُعرف – وما لا يُعرف – عن تأزّم العلاقات بين جماعات الطوائف؛ فالشقاق بين الجماعتين الإسلاميتين، السنة والشيعة، يتفاقم، ويتغذّى مما لا حصر له من مغذّيات الماضي والحاضر، ويكاد يتحول إلى مأساة (تراجيديا) شعبية محتدمة يتطهَّر من خلالها الناس في مجالسهم الخاصة من شحناتهم العدائية التي لا يعرفون منابعها. هذا ويتنامى لدى قطاع هام من المسيحيين، لدواعٍ لها تاريخ في الماضي والحاضر يطول شرحها، شعورٌ يمكن أن يوصف، بتعبير ملطّف، بالتباعد الوجداني تجاه المسلمين، سنة وشيعة ودروز. وعليه، وبما أن الاتصال قلق، والانفصال غير ممكن، وإنحلال الجماعات إلـ "مواطنين" أفراد ليس في متناول اليد، برزت دعوة من داخل إطار الصيغة نفسها إلى فك الإرتباط الإنتخابي بين الطوائف (والمقصود بوجه خاص بين المسيحيين والمسلمين).
صدرت الدعوة عن القوى السياسية المسيحية (المارونية) المجتمعة لدى بطرك الموارنة قبل إقرار القانون الإنتخابي المعمول به حالياً (المبني على النسبية والصوت التفضيلي) وذلك بتبنّي المجتمعين لمشروع قانون إنتخابي منسوب إلى الأورثوذكس (القانون الأورثوذكسي) يقضي، في جوهره، أن تنتخب كل طائفة نوابها وفق التوزيع الطائفي المعتمد حالياً. لم يؤخذ بهذا المشروع، إلاّ أن خطوة بإتجاهه تم خطوُها وتمثلت في القانون الإنتخابي الحالي في الصوت التفضيلي. ويُضاف إلى هذه الرغبة المتنامية في الوسط المسيحي لفك الإرتباط الإنتخابي مع المسلمين، رغبةٌ أخرى سابقة على الأولى ومكمّلة لها لدى الوسط نفسه تتمثّل في فك الإرتباط الإداري، وذلك بالاستناد إلى البند الذي أقرّه الطائف حول "اللامركزية الإدارية الموسّعة".
لقد باتت الشكاوى المسيحية التي تدفع باتجاه هذين المطلبين معلنةً ومعلومة، أهمها بالطبع أن المسيحيين لا يختارون بأنفسهم كامل ولا معظم نوابهم، وأن معدل تمثيلهم في الإدارة العامة ما دون الفئة الأولى غير متوازن بصورة مقلقة. وتتضمّن هذه الشكاوى أحياناً ما هو أشدّ مدعاة للقلق والغيظ: مساهمة المسيحيين في المالية العامة لا تتناسب مطلقاً مع الخدمات العامة التي تتلقاها مناطقهم.
وعلى الجملة تعزز هذه الشكاوى – إضافة إلى دواعٍ أخرى لا مجال لتفصيلها هنا – ما تم وصفه، بتعبير ملطّف، بالتباعد الوجداني المتنامي لدى قطاع واسع من المسيحيين تجاه المسلمين بكافة جماعاتهم، والذي يغذّي رغبتهم بفك الإرتباط عن هذه الجماعات، الإنتخابي ثم الإداري.
من الصعب تقدير مواقف المنظمات السياسية للجماعات الإسلامية من هاتين المسألتين، وذلك لعدم إفصاحهم عنها بوضوح. بيد أن دعوة حزب الله إلى "مؤتمر تأسيسي" قد ينطوي، على الأرجح، على مرامي سياسية أبعد غوراً من هاتين المسألتين. هل يرمي إلى المثالثة التي تقلق المسيحيين؟ أم إلى نزع التخصيص المذهبي عن الرئاسات الثلاث الذي يقلق السنة؟
وكائناً ما كانت هذه المواقف وتلك المرامي، فإن السؤال هو: هل يفضي مزيد من فك الإرتباط بين المسيحيين والمسلمين و/أو تعديل المعادلة داخل الصيغة و/أو نزع التخصيص المذهبي عن الرئاسات وما شابه إلى معالجة تأزُّم تطبيق الصيغة أو اعتلالها؟
الواضح أن الجواب هو النفي. ذلك أن تأزم تطبيق الصيغة هو التعبير السياسي عن تأزم العلاقات بين الجماعات الطائفية لدواعٍ لا حصر لها ولا عد، اجتماعية وثقافية وسياسية. وبديهي أن تأزماً من هذا النوع لا يعالجه قانون انتخابي ولا نتائج انتخابات ولا لامركزية إدارية ولا حتى تعديل المعادلة (وقد تعدّلت في الطائف) أو "تحرير" الرئاسات من التخصيص المذهبي وما شابه. لذا يظهر، من كل ما تقدّم، أن اللبنانيين محكومون لا بالصيغة فحسب بل أيضاً بتطبيق مأزوم لها، وبالأمل، فقط بالأمل في معاودة اشتغالها وفق ما دعاه فؤاد بطرس "استراتيجية الرئيس شهاب" التي قامت، حسبما كتب، على "إشعار كل مجموعة لبنانية أن حضورها غير منتقص وأن خصوصياتها مأخوذة بالإعتبار ومحترمة، وفي المقابل، تحترم المجموعات الدولة اللبنانية بكامل مؤسساتها ككيان وطني مترفع حيادي ومستقل يعمل في سبيل الخير العام" (المذكرات، دار النهار، ص 101)، وذلك إلى حين يُخرِج التاريخ - بمكره المعهود وفي أفق غير مرئي – الأرانب من رؤوس الأطفال.
أستاذ في الجامعة اللبنانية
الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك
اطبع الكود:
لا تستطيع ان تقرأه؟
جرب واحدا آخر
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة