الجمعه ٢٢ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون الأول ٦, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
مستقبل الصيغة اللبنانية: "العائلات الروحية" كاسْمٍ مستعار - كمال بكداش
-1-

من الواضح أن الصيغة اللبنانية – بما هي صيغة تمثيل الجماعات الطائفية بحصص أو أنصبة ثابتة في مؤسسات الحكم – تواجه في التطبيق حالة تأزُّم أو إعتلال، تُصاب أحياناً، عند حلول الاستحقاق لانتخاب الرئيس أو تأليف الحكومة، بشلل شبه تام، فيما تُصاب في أحيان أخرى، عند الحاجة إلى اتخاذ قرار حكومي يتطلّب "توافقاً" ما، بشلل جزئي، إلا أنها لا تبلغ تماماً "حالة موت سريري". ذلك أن الصيغة تعاود، ما بين شلَلَيْن، العمل بما بقيَ أو تخلّفَ لها من طاقة على إنتاج توافقات بين القوى الممثلة للطوائف، كالتوافق حول قانون الإيجارات الذي يراعي مصالح مالكي الشقق من "جميع" الطوائف وكذلك، على ما قيل، مصالح أصحاب المشاريع العقارية الكبرى المقرّبين من القوى النافذة، وكالتوافق أيضاً حول قانون الانتخابات الذي جمَعَ في نص واحد ثلاثة مطالب للقوى السياسية الأكثر تمثيلاً للطوائف الثلاث "الكبرى": النسبية لحزب الله وأمل، والصوت التفضيلي للتيار الوطني الحر، وتقسيمٌ للدوائر يراعي إلى حد ما "المستقبل" وجنبلاط. وبالفعل أفضى تطبيق هذا القانون في الانتخابات النيابية الأخيرة إلى خروج جميع القوى "منتصرة" بما في ذلك "المستقبل" الذي خرج أقل إنهزاماً مما كان متوقعاً له.

الصيغة إذاً لم تمت، إلا أنها تعاني في التطبيق من مرض عُضال، مزمن، أخذ بالتفاقم منذ اغتيال رفيق الحريري وإنسحاب الوصيّ السوري وإتساع الشقاق بين السنة والشيعة من جهة، وعودة المسيحية السياسية إلى احتلال موقعها الذي يعود إليها في الحياة السياسية وفي مؤسسات الحكم من جهة أخرى. والحال أن هذا التأزُّم المتفاقم والمتمادي في تطبيق الصيغة هو ما يسوّغ التساؤل حول مستقبلها.

-2-

صمدت الصيغة - بما هي طريقة لتمثيل الطوائف في مؤسسات الحكم – ما ينوف على القرن ونصف القرن. فقد أُرسيت نواتها في نظام المتصرفية باتفاق وضغط من الدول المعنية بأزمة جبل لبنان ما بين عاميّ 1840 و 1860، ثم، بعد إنشاء لبنان الكبير، حرص الإنتداب على مراعاتها بطريقة أو بأخرى في تشكيل الحكومات واختيار الرؤساء، إلى أن تبنّاها، بقوة الاستمرار لما هو بديهي، الاستقلاليون وثبّتوا توزيع الأنصبة بين الطوائف في معادلة ستة إلى خمسة (6/5) لصالح المسيحيين لطمأنتهم، على ما قيل، وتحفيزهم على طلب الاستقلال، وصولاً إلى اتفاق الطائف الذي عدّل هذه المعادلة، تحت ضغط التغيّر السكاني وتغيُّر الأحوال السياسية، إلى المناصفة.

تشي هذه الاستمرارية بطبيعة الحال أن ثمة في الصيغة ما يناسب أو يلائم مجتمعاً مشرقياً تعددياً كانت جماعاته الطائفية ولا تزال تشعر شعوراً قوياً بذاتياتها أو هوياتها الخاصة، لا بل أن شعورها هذا يقوى مع الزمن بتأثير حوادث المشرق وتحولاته المعلومة. ولذا يظهر إن الصيغة استجابت – بأفضل مما يمكن أن تستجيب به الصيغ السياسية البديلة – لهذا الشعور المتنامي بالهوية وما ينطوي عليه من مخاوف (مخاوف التهميش والمخاوف من الهيمنة وهما وجهان لخوف واحد)، وذلك بتخصيص هذه الجماعات بأنصبة في الحكم تَرضى عنها وتقيها - - بهذا الرِضى بالذات – من اللجوء إلى المغالبة لتحصيل "الحصة" التي تعتقد كل جماعة منها بأنها "حقها" العادل، بذريعة "الكمية" (العدد) أو "النوعية" (الإمتياز الثقافي أو الاقتصادي وما شابه).

على ذلك باتت الصيغة أشبه بنموذج إرشادي تكاد لا تفكّر القوى السياسية للطوائف خارج إطاره، وهو ما عبّر عنه زعيم سياسي (كنبيه بري في خطبة له في صور في ذكرى الإمام موسى الصدر) أمام جمهوره الموعود بـــ والمتطلّع إلى "إلغاء الطائفية السياسية" بأنه لا يملك – حتى ذهنياً – بديلاً للصيغة القائمة، وهو أيضاً ما دفع على الأرجح شخصية دينية نافذة (كالإمام محمد مهدي شمس الدين) إلى أن يَعدُل عن تحبيذه "الدولة المدنية" و"الديموقراطية العددية"، ويتبنى قبل وفاته بفترة قصيرة في "وصاياه" الصيغة القائمة ويدعو أبناء طائفته إلى الاندماج في وطنهم على أساسها.

-3-

من المفارقات - الساخرة كما بات يُقال – أن الصيغة اللبنانية أصبحت في العقد الأخير نموذجاً يُدعى إلى الإقتداء أو الإحتذاء به في بلدان عربية كالعراق وسوريا. ويُذكر أن النظم السياسية "القومية" في هذه البلدان وأنصارها من اللبنانيين كانوا لا ينفكّون عن ذم النظام الطائفي "البغيض" أو "المقيت" السائد في لبنان، وذلك بالمفاضلة بينه وبين هذه النظم "العلمانية" ومجتمعاتها التي زُعم أنها موحّدة. غير أن ما أتى به التاريخ إلى النظام السياسي في العراق ما بعد الإطاحية بصدام هو، كما نعلم، شبه استنساخ للصيغة اللبنانية: تقسيم للدوائر الانتخابية بما يلائم "المكونات"، أي الجماعات الطائفية والاتنية، مراعاة تمثيل هذه "المكونات" في الحكومة بــ"حصص" شبه ثابتة (بقوة الأشياء وبدون ميثاق شفهي ولا مكتوب)، وتوزيع الرئاسات الثلاث على المكونات "الكبرى": الشيعة والسنة والأكراد (ويُذكر أن رئيس الجمهورية السابق في العراق، فؤاد معصوم، أشاد أثناء زيارة رئيس الجمهورية ميشال عون للعراق وأمامه، بما مثلته "التجربة اللبنانية" (أي الصيغة) من نموذج استلهمه العراقيون في تكوين مؤسساتهم السياسية).

أما في سوريا، وفي لحظة بدت لمعارضي النظام أنه مشرف على السقوط حوالي العام 2014، تناولت أقلام معارضة مستقبل النظام السياسي في بلدها ولمَّح عددٌ منها إلى ضرورة استلهام "التجربة اللبنانية" في مراعاة التمثيل السياسي لـــ "أطياف" الشعب السوري، أي طوائفه وقومياته. ولعل ما تسرّب من المشروع الروسي للدستور السوري "الاتحادي" يمثّل تنويعاً في هذا الاتجاه.

"عائلات روحية"، "مكونات"، "أطياف"، تلك هي أهم الإستعارات التي طالما استخدمها المشرقيون للدلالة بخَفَر على الطوائف والقوميات، إلا أنهم، على ما يظهر، بدأوا مؤخراً يتخففون منها ويسمون الأشياء بأسمائها "الحقيقية" لا المجازية: سنة، شيعة، مسيحيون، عَلويون، عرب، أكراد.. إلخ إلخ. ويُعدُّ هذا في عرف الواقعية الفكرية تقدماً، وتدعو هذه الواقعية الجديدة إلى التفكير لإصطناع صيغ سياسية لتمثيل هذه الجماعات في مؤسسات الحكم تمثيلاً منصفاً، وهو، في كل الأحوال، ما يقود إليه التاريخ في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، وما سبق أن قاد إليه في لبنان منذ قرن ونصف القرن.

-4-

لعل ما تقدّم يعزّز، بالإيجاب، توقُّع استمرارية الصيغة، غير أن ثمة ما يعزّز، بالسلب، هذه الاستمرارية. ذلك أن المفاضلة بين الصيغة وبدائلها التي يشيع الحديث عنها تفضي على الأرجح، في الفكر على الأقل، إلى "تفضيل" الصيغة أو إلى اعتبارها أقل الصيغ المعروضة سوءاً. أهم هذه البدائل بالطبع وأكثرها شيوعاً هو الديموقراطية الصرفة أو العددية غير المقيَّدة بالقيد الطائفي. تمثّل هذه الديموقراطية بالطبع "مثالاً أعلى" يتطلّع إليه أنصار الحداثة السياسية، إلا أنها إذا ما وُضعت موضع التجريب الذهني (وهو تجريب معترف به في علوم الإنسان والمجتمع، إضافة إلى العلوم الفيزيائية) فسوف تتضح مخاطرها على مجتمع تعدّدي لا تزال جماعاته الأهلية تشعر، كما سبق أن ذكرنا، شعوراً قوياً بهويّاتها الخاصة. فماذا لو حملت إنتخابات حرة ونزيهة وتنافسية في ديموقراطية غير مقيّدة طائفياً إلى المجلس النيابي ثلاثين بالمئة من النّواب المسيحيين وسبعين بالمئة من النواب المسلمين؟ أو أنها حملت عدداً من النواب من جماعة طائفية يوازي عدد هذه الجماعة بين السكّان؟ أليس من المحتمل أن تسعى الجماعة المنكفئة التي تشعر بـ"الغبن" إلى تعزيز حصتها في الحكم بطرق غير ديموقراطية؟ ألن يكون النزول إلى الشوارع أحد هذه الطرق؟ إلخ. إلخ. وبالطبع قد يذهب التجريب الذهني إلى أبعد من ذلك في تقدير المخاطر التي تنطوي عليها ديموقراطية غير مقيّدة بتمثيل الجماعات الطائفية بحصص ثابتة ومرضٍ عنها في آن معاً.

صحيح أن اتفاق الطائف نصَّ في أحد بنوده على تشكيل "هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية"، غير أنه من المعلوم – أو بات معلوماً – أن هذا البند لم يُدرج في الاتفاق سوى للتهويل على الوسط المسيحي والضغط عليه لإقرار الدستور الجديد الذي ينتزع صلاحيات مهمة من رئاسة الجمهورية ويحيلها إلى الحكومة مجتمعة، وكذلك لإسكات هذا الوسط عن المطالبة بإنسحاب القوات السورية إلى البقاع بعد سنتين من إقرار الدستور، كما نص على ذلك بندٌ آخر من الاتفاق. وبالفعل ما إن انقضت هاتان السنتان وطالب بطرك الموارنة تطبيق هذا البند حتى انطلقت القوى الموالية للنظام السوري وفي طليعتها حركة أمل، بالمطالبة بتطبيق بند الهيئة المولجة بـ"إلغاء الطائفية السياسية" (مما دفع شخصية سياسية – ثقافية كسمير فرنجية إلى مطالبة الحركة تهكماً إلى أن تبدأ بإلغاء الطائفية بنفسها!)، ثم أطلقت الأجهزة الأمنية منظمة سياسية سنية (جمعية المشاريع) للتظاهر ورفع السيوف والخناجر الخشبية تنديداً بمطلب البطرك. والمحصلة ما إن انحسرت مسألة إقرار الدستور ومسألة الإنسحاب السوري عن التداول حتى دخلت قضية "إلغاء الطائفية السياسية" في طي النسيان العام.

أما البدائل الأخرى للصيغة التي قد تخطر في الذهن فتصطدم بدورها، في التجريب الذهني نفسه، بعقبات لا حصر لها. فـ"الحكم القوي" مثلاً الذي يتشوّق إليه قطاع من الناس منذ زمن طويل (ولربما منذ فجر الخليقة) موصومٌ على الدوام في مجتمعات المشرق بـ"فئويته" أو "طائفيته"، وآل – لهذا السبب بالذات – في بلدان الإقليم إلى فاجعة إنسانية مروّعة، هذا فيما يصطدم بديل "الفيدرالية" التي رفعت لواءها "الجبهة اللبنانية" إبّان الحرب اللبنانية واعتبرها سليمان فرنجية الجد العام 1978 "الحل الأنسب للبنان" (فؤاد بطرس، المذكرات، دار النهار، ص 274) ولا تزال تراود أذهان بعض مسؤولي "حزب الكتائب، بعوائق جغرافية - سكانية لا أمل في تخطّيها، اللهم إلا من خلال تبادل سكاني مهوّل ترتعد له الفرائص بمجرد تخيّله أو ذكره.

أستاذ في الجامعة اللبنانية


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة