كلما اقتربنا من موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في 28 من الشهر الجاري، كلما تبينا كمواطنين مصريين مدى التشوه الذي أصاب حياتنا السياسية. خلال الأيام القليلة الماضية قدم لنا الحزب الوطني الحاكم بصراعات مرشحيه المعتمدين ومستبعَديه، وبعبثية دفعه بأكثر من مرشح على المقعد الانتخابي الواحد، دليلا قاطعا على استمرار تشوهه التنظيمي وإخفاق مساعي التحديث التي قادتها أمانته العامة وأمانة السياسات في تحويله حزباً سياسياً طبيعياً وليس مجرد حزب الحكومة أو حزب الدولة المعتمد على هذه الرابطة للبقاء ولجذب الأعضاء. فالحزب السياسي الطبيعي ينافس مرشحوه في الانتخابات مرشحي الأحزاب الأخرى وليس بعضهم البعض، والحزب السياسي الطبيعي به من التوافق الداخلي على "المبادئ" و"الأهداف" ما يكفي لاختيار مرشح واحد لكل مقعد انتخابي واحتواء إحباطات من رغبوا في الترشح ولم يرشحوا من أعضائه دون إعلان هؤلاء التمرد والعصيان ودعم مرشحي المعارضة ضد مرشحي حزبهم!
كذلك خرجت علينا الأحزاب والحركات المشاركة في الانتخابات خلال الأيام القليلة الماضية ببرامجها الانتخابية، وتلك يعتريها أيضا الكثير من التشوه والنواقص. المفترض في برامج الأحزاب الانتخابية، في حياة سياسية تعددية وتنافسية، أن تقدم للناخبين وللرأي العام إجابات واضحة على سؤالين رئيسين: ما الذي يريد الحزب المعني تحقيقه لمصر على مختلف الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إذا ما فاز في الانتخابات وكيف سيضع هذه الرؤية موضع التنفيذ (السياسات العامة المقترحة)؟ ولماذا ينبغي على الناخبين منح الثقة للحزب المعني وتفضيله على بقية الأحزاب والحركات المشاركة في الانتخابات؟ ولماذا يتعين عليهم تأييد رؤيته مقارنة برؤى الآخرين؟ ويضاف إلى هذين السؤالين في البرامج الانتخابية للأحزاب الحاكمة تقديم كشف حساب لأداء الحزب ورصد لنجاحات سياساته العامة وسبل التغلب على عثراتها في المستقبل، وفي برامج المعارضة محاسبة الحزب الحاكم بهدف كشف إخفاقاته أمام الناخبين وإقناعهم بأن المعارضة هي الأقدر على إصلاح أحوال البلاد والعباد. أما في مصر، وفي ظل حياة سياسية شوهها غياب إمكان تداول السلطة وانتخابات يعلم الجميع سلفا أن نتائجها لن تغير من هيمنة الحزب الوطني على مجلس الشعب، فتبتعد البرامج الانتخابية كثيرا عن مقاربات كهذه.
نعم يحوي البرنامج الانتخابي للحزب الوطني تذكيرا بوعوده للناخبين في 2005 وعرضا منظما (كثير البيانات والأرقام) لإنجازات حكومته خلال الأعوام الخمسة الماضية وصياغة مفصلة للسياسات العامة المراد تنفيذها في الأعوام المقبلة وللأهداف التنموية المأمول تحقيقها. الشق الأكبر من البرنامج يتناول المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الرئيسة كالفقر والبطالة وسياسات التشغيل والرعاية الصحية ونظم المعاشات والتأمينات والدعم الحكومي ويقترح الكثير من السياسات للتغلب عليها، ولا شك في أن التركيز على الاقتصادي والاجتماعي دليل نضج تنظيمي وسياسي داخل الحزب. إلا أن برنامج الوطني يظهر أيضا العديد من التشوهات المرتبطة بوضعية الحزب كحزب الحكومة الدائم والمهيمن دون منازعة على مجلس الشعب.
البرنامج لا يشي على الإطلاق بأي قلق أو شك (هو اعتيادي وطبيعي في حالة الأحزاب الفاعلة في بيئات تنافسية) يساور قيادات الحزب وأطره التنظيمية بشأن إمكان خسارة الغالبية البرلمانية أو احتمالية أن تفرض عليهم نتائج الانتخابات الائتلاف مع حزب آخر لتشكيل الحكومة، فتلك حسابات ومعادلات لا محل لها من الإعراب لدى السلطوية المصرية. ومن ثم تأتي صياغة البرنامج الانتخابي كبرنامج للحكم سيشرع في تنفيذه بعد الانتخابات دون مواءمات مع أحزاب أخرى أو تعديلات قد تستدعيها مفاجأة انتخابية ما.
كذلك تغيب عن برنامج الوطني ملامح التعامل النقدي مع أداء الحزب وحكومته خلال الأعوام الماضية ويغلب عليه الطابع الاحتفالي والتفاخري. عندما تخرج الأحزاب الحاكمة الفاعلة في بيئات تنافسية على الرأي العام بكشف حساب قبل الانتخابات الجديدة فإنها عادة ما تمارس شيئاً من النقد الذاتي وتشير إلى ما تعتزم تطويره وإصلاحه إن حازت قبول الناخبين مرة أخرى. أما لدى الحزب الوطني، فيستحيل كشف الحساب النقدي خطاب إنجاز أحادياً ومبسطاً تتناقض احتفاليته مع واقع المصريين المأزوم اقتصاديا واجتماعيا. ولم يشذ عن قاعدة غياب النقد الذاتي عن البرنامج إلا إشارة متفردة للفساد الإداري وتداعياته المعوقة للتنمية وحتمية الحد منه.
ثم تكتمل تشوهات برنامج الحزب الوطني بصمته المطبق عن قضايا الإصلاح السياسي، والتي كان الحزب قد أفرد لها حيزا كبيرا في برنامجه في انتخابات 2005. لا حديث في برنامج 2010 عن قانون الطوارئ المرجو إلغائه ولا عن تعديل لنظام الانتخاب يراد منه دعم الأحزاب الرسمية ولا عن تعديلات قانونية وإجرائية مبتغاها رفع معدلات مشاركة المواطنين السياسية. مصدر التشوه هنا هو أن الوطني يتعامل مع الإصلاح السياسي وكأنه بات دهرا منسيا، وكأنه أصبح في عداد الملفات المحسومة ولم يعد بالتبعية يستحق الطرح في البرنامج الانتخابي أو العرض على الناخبين، وفي هذا تحايل مكشوف على السلطوية المستمرة للحياة السياسية وتجاهل تام لمطالب المعارضة وقطاع واسع من الرأي العام المتعلقة بضرورة إدخال إصلاحات جوهرية.
أما برنامج جماعة الإخوان المسلمين فلا يحمل جديدا يذكر، بل يكرر صياغات وأفكار ومقترحات برنامج 2005 وبرنامج حزب الإخوان الذي كان قد أعلن في 2007. تعالج الجماعة في البرنامج وبشيء من التفصيل أزمات مصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتنتقد أداء حكومة الحزب الوطني وتدعو للتغيير لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية، إلا أنها تعجز عن اقتراح سياسات بديلة للسياسات الحكومية وتكتفي بعموميات خطابية أو بتحليلات غير موثقة. كذلك يشير تمسك الجماعة بالإسلام هو الحل كعنوان للبرنامج، على الرغم من تعارضه مع الحظر القانوني لتوظيف الشعارات الدينية في الحملات الانتخابية والذي أكدت عليه اللجنة العليا للانتخابات ويدعمه الحظر الدستوري للنشاط السياسي المستند إلى مرجعية دينية، إلى تشوه خطير آخر يرتبط بنزوع الجماعة للتعاطي باستخفاف مع الإطار الدستوري والقانوني الناظم للانتخابات وللحملات الانتخابية.
وكما يتحايل الحزب الوطني على السلطوية المستمرة بالصمت عن الإصلاح السياسي، يتحايل الإخوان على مقاربتهم التمييزية إزاء المواطنين الأقباط والمنتقصة من حقوقهم السياسية باستبعادهم من مناصب الدولة الكبرى وعلى دعوتهم (في برنامج حزب الإخوان 2007) لتشكيل مجلس منتخب من علماء الدين للرقابة على التشريعات والقوانين بتهميش الأمرين في برنامج 2010 وكأنهما اختفيا أو انتفت أهميتهما. فلا تناول مفصلاً في البرنامج للحقوق السياسية للمواطنين المسلمين والأقباط (كما اعتادت الجماعة في الآونة الأخيرة) بل تأكيد فضفاض على المساواة بينهم بالصياغات الدينية المعتادة (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) لا يرقى إلى مقام إسقاط المقاربة التمييزية، وصمت تام عن الدعوة للجنة علماء الدين عوضا عن إعلان التراجع عنها.
وما يقال عن برنامج الإخوان بشأن ضعف مقترحات السياسات البديلة والاكتفاء بنقد سياسات الوطني ونتائجها وغياب النقد الذاتي، ينطبق على برامج بقية الأحزاب والحركات، كبيرها وصغيرها.
|