التاريخ: تشرين الأول ٣١, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
منظومة الفساد العميقة في العراق - مشرق عباس
الرؤساء العراقيون الثلاثة برهم صالح و عادل عبد المهدي ومحمد الحلبوسي، أصدروا في أوقات متقاربة بيانات أو تسريبات أو آراء تتعلق بعزمهم إعادة إصلاح منظومة رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان كخطوة أولى قبل التوجه إلى تطبيق وعود الإصلاح الأخرى.

بالطبع أن مثل تلك الإعلانات قد تكون مجرد دعاية أو حماسة للحصول على التضامن الشعبي، وربما إدانة غير مباشرة لحقب الرؤساء السابقين، وقد ينتهي الأمر إلى الأدراج التي تكدست فيها الإعلانات المماثلة، لكنها تكتنف في الأقل إدراكاً متصاعداً بأن رأس السلطة في العراق ليس أقل فساداً من قاعدته، وأن هذا الرأس ممثلاً بمنظومات الرؤساء ومحيطيهم ومستشاريهم والدوائر المرتبطة بهم، والظروف التي وضعوا أنفسهم فيها، والخنادق والشرانق التي نمت على أساسهم، تمثل نقطة بداية نموذجية لأي خطوة إصلاح جادة.

وعندما نقول إن رأس الدولة المكون في التجربة العراقية من ثلاثة أعين، فاسد، فتلك ليست تهمة، بل إقرار بواقع حال، وإعادة تعريف للفساد من جديد ليعبر أيضاً عن حالات التغاضي والتبديد وإهدار الإمكانات وتقويض أسس الدولة الرشيدة والسماح بمنظومات وهمية في صلب عمل مؤسسات الدولة العراقية.

وحيث أن الرأس أحاط نفسه دائماً بجدران قانونية وسياسية وأمنية بررت له الخطأ وساعدته على الاستمرار فيه وأرغمته أحياناً، يمكننا القول إن تعبير «الدولة العميقة» أو ما سنطلق عليه «منظومة الفساد العميقة» التي تقاوم التغيير وتؤمن نفسها أمام العواصف، متركزة بشكل وثيق في منظومات إدارة رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان، قبل أن تبث سمها بانتظام إلى بقية المؤسسات والوزارات.

بمراجعة سريعة للواقع، فإن «الرأس» أو ما يطلق عليه في العراق «الرئاسات الثلاث» في حاجة إلى حركة تطهير شاملة للبطالة المقنعة التي ترتبط بها، ولجيوش الموظفين والمستشارين والخبراء والمنتفعين والمتسلطين على الوزرات والقضاء والأجهزة الأمنية، الذين يستمدون قوتهم دائماً من قوة رؤسائهم.

وبمناسبة الإعلانات التي بشر بها الرؤساء الجدد، فإن عليهم قبل المضي إلى أي خطوة جديدة، الإعلان عن حقيقة المنظومات التي تسلموها حديثاً، فعلى رئيس الوزراء أن يكشف بالضبط ما هي الأدوار التي تقوم بها الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ولماذا تنال كل هذه السلطة ومن أين تستمد قوتها، وعلى أي قانون استندت لتتضخم خلال سنوات إلى الآلاف من الموظفين الغامضين من وزراء ومدراء عاميين ومدراء وغيرهم، بما يشبه الدولة داخل الدولة، كما على رئيس الجمهورية أن يكشف حقيقة «ديوان رئاسة الجمهورية» وما الدور الذي يقوم به، ومثله يجب أن يفعل رئيس البرلمان، ليكشف عن تضخم مريب في موظفي البرلمان والدوائر المرتبطة به. هذه هي الخطوة الأولى، وهذا هو الإعلان الثلاثي الأول الذي يمكن أن يستمع إليه ابن البصرة، وهو يتساءل منذ أعوام عن معنى أن يعيش وسط الخرائب والازبال، من رؤسائه قبل أن يستمع منهم إلى أي خطبة تعاطف مع قضيته، وقبل أن يتاجر باسمه نواب وسياسيون للحصول على منصب تحت شعار «تمثيل البصرة»، والحال ما يجب أن يفهمه ابن الموصل وبغداد وبابل.

إن «منظومة الفساد العميقة» هي التي تقاوم بصلابة افتتاح المنطقة الخضراء والمناطق والمربعات الأمنية، والمربعات المحيطة بالوزارات والمؤسسات والحكومات في بغداد والمحافظات، لأنها تحمي نفسها في الأساس قبل أن تحمي رؤساءها ووزراءها، وتريد منهم بل تفرض عليهم أن يتكيفوا مع واقع شاذ يديرون من خلاله الدولة بما يشبه زعماء مافيا من خلف أسوار عالية منفصلة عن شعبهم، وهي المنظومة نفسها التي تجد المنافذ والمسالك القانونية غير الشرعية، وتخترع الآليات الدفاعية والجيوش الإلكترونية، وتفسد القاضي قبل السياسي، ورجل الأمن قبل الموظف. علينا أن نرفع الصوت معاً، إلى رؤساء نتلمس منهم خيراً اليوم، وندعم إعلاناتهم للمضي إلى الإصلاح، على أن يمضوا به معاً، لخطط عمل تشريعية وتنفيذية شاملة وجريئة تطعن منظومة الفساد العميقة في رؤوسها المتكدسة بالقرب من مكاتبهم أولاً قبل المضي إلى المكاتب الأخرى.

الإصلاح مؤلم... وخطير، وقاس، على الشعب في المراحل المقبلة، ومن يريد المضي إليه، عليه أن يخضع نفسه لذلك الألم أولاً.