التاريخ: تشرين الأول ٢٨, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
قصة "جارية" عراقية، قصة الشرق الأوسط - سليم نصار
صدر الشهر الماضي في الولايات المتحدة كتاب مميز يحمل العنوان التالي: "عدّاء الطائرة الورقية." وقد ألفه الكاتب الكردي خالد حسيني الذي يروي فيه مأساة والد غرق به المركب الذي ينقله من تركيا مع أفراد عائلته. وبعد بحث طويل وجد جثة إبنه الصغير (3 سنوات) مطمورة على الشاطئ وقد غطتها الرمال الحارقة.

ولما انتشل الوالد المفجوع جثة إبنه "ألن كردي"، من الرمال التقط لهما أحد الناجين صوة فريدة تصدرت كل صحف العالم، وقد كتب تحتها: السوريون يهربون من موت البر الى موت البحر.

ويروي المؤلف خالد انفعالاته المؤثرة وهو يتصور أن الطفل الغريق هو إبنه، وأن "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) دفعه الى الهرب من سوريا عام 2015.

على الطرف الآخر من مملكة "داعش" - أي العراق - أصدرت نادية مراد كتابين روت فيهما مأساة حياتها، تحت عنوان: عذراء سنجار... والفتاة الأخيرة. وبما أن نادية كانت تمثل النموذج الحيّ لمعاناة فتاة عذراء تناوب على اغتصابها العشرات من مقاتلي "التنظيم"، فقد اختارت أن تدوّن قصة عذابها في كتابين مميزين، وقد روت فيهما وعورة دربها، وكيف تعرضت مع رفيقاتها للأسر والاغتصاب والبيع في سوق النخاسة، تماماً مثلما كانت تُباع الجواري في سوق الرقيق.

السبب الذي دفع المسلحين الى تعذيب الأسيرة نادية ورفيقاتها لم يكن مرتبطاً بموقف سياسي أو عقائدي قدر ارتباطه بديانتها الايزيدية. والملفت أن حكاية تكوين هذه الطائفة أو هذا المذهب، قد تعرضت لاجتهادات مختلفة كان أبرزها القول بأنها انحراف عن الدين الإسلامي أو انشقاق عنه. من هنا كتب المؤرخون أن تصرفات الإسلاميين نحو هذه الطائفة اضطرتها الى التقوقع في سنجار والشيخان بغرض ممارسة طقوسها الغريبة في معبد "لالش" الذي يقع في إحدى أودية الشيخان!

وبسبب غرابة مذهبهم، تعرض الايزيديون لمجازر متواصلة بدأت في زمن السلطنة العثمانية، واستؤنفت في عهد أبو بكر البغدادي. وكانت التهمة التي تلاحقهم دائماً مرتبطة بمعابدهم المخفية، وبالإشاعات التي تقول إنهم يعبدون الشيطان أو ابليس!

وقد عزز هذه الفكرة في مطلع السبعينات كتاب طريف "اكزوست" نشره شاب فلسطيني من عائلة بلاطة، كان موظفاً في السفارة الاميركية في بيروت. وخلاصة تلك القصة التي تحولت الى فيلم، أن الشيطان في الشمال الغربي من العراق دخل في روح صبية كانت تصرخ بشكل جنوني، وتتقيأ شيئاً أخضر اللون. وشكت عائلتها لأحد الرهبان الذي استخدم التعاويذ للتخلص من الشيطان الذي يسكنها، وقد نجح. والقصة في رمزيتها تشير الى تغلب روح المسيحي المؤمن بالله على الشيطان الذي يقطن بروحه في سنجار وجرود الشيخان. وقد اعتبرت المجلات التي تُعنى بصناعة السينما أن فيلم "المسكون" نال جوائز عدة بسبب الرعب الذي يبثه في جمهور المشاهدين، أو بسبب تأثير الاضطراب النفسي الذي يتعرض له البعض الآخر.

يوم الخامس من هذا الشهر أعلنت بيريت اندرسن، المتحدثة بإسم لجنة نوبل للسلام، أن الجائزة لسنة 2018 كانت من نصيب الشابة نادية مراد (23 سنة) والدكتور الكونغولي دينيس ماكفيجا، وذلك تقديراً لجهودهما في مكافحة العنف الجنسي. ومع أن العراق يبعد آلاف الأميال عن الكونغو، إلا أن تكامل المهمتين الإنسانيتين جعل الأكاديمية السويدية تمنح الجائزة مناصفة بينهما. علماً أن الاثنين فازا معاً بجائزة "ساخاروف" التي يقدمها البرلمان الأوروبي تقديراً للمدافعين عن حقوق الإنسان.

ويُستدَل من مراجعة طريق الجلجلة التي قطعتها نادية بصبر أنها تملك رغبة صادقة في الدفاع عن المظلومات، ولا فرق سواء انتمين الى الطائفة الايزيدية أم الى أي طائفة أخرى. وأثبتت بقدرتها على تحمل الآلام، والترفّع عن الأحقاد والضغائن، أنها نموذج لكل النساء اللواتي تعرضن للإغتصاب والعنف الجنسي.

في ضوء هذه الصفات الفريدة التي تتمتع بها نادية مراد، خرجت لجنة جائزة نوبل عن قواعدها الملزمة لكي تختار شخصية العام 2018 فتاة مغمورة من طائفة مهمّشة في العراق.

سئلت نادية بعد صدور كتابيها عمّا إذا كانت قد أغفلت عن عمد بعض الحقائق المؤلمة، فأجابت تقول: "لم يكن من السهل عليّ أن أروي ما حصل لي على أيدي مسلحي "داعش". تماماً كما ليس سهلاً على نساء الشرق الأوسط الاعتراف بأنهن كن جواري جنس". ومن المؤكد أن معاناة نادية كانت أكبر بكثير من الجرح النازف الذي تركه أثر الاغتصاب على جسدها. ذلك أن إرهابيي "تنظيم الدولة الإسلامية" اقتحموا المنزل وقتلوا أمام عينيها ستة من أشقائها. وبما أنها لم تذكر في كتابها الطريقة التي تحررت فيها من الأسر، فقد برز فجأة على هامش هذه المأساة شاب عراقي يدعى عمر عبدالجبار، ليقول إنه هو الذي أنقذها ووفر لها الحماية. وتحدث الى وسائل الإعلام ليؤكد أن نادية تسللت الى منزله، وطالبته بإيوائها وعدم إبلاغ "داعش" عن مكان وجودها. ونظراً الى وجود منزله في موقع يعجّ بالمسلحين، نقلها الى منزل شقيقته حيث حظيت بمعاملة حسنة، قبل تهريبها الى محافظة كركوك. وفي حديث مع بي بي سي، وصفت نادية صورة سريعة للظلم الذي لقيته على أيدي مسلحي "داعش". قالت "إن المرأة تحت حكمهم تتعرض للسبي، وسرعان ما تتحول الى غنيمة حرب. وفي حال حاولت الفرار فإن القصاص ينتهي بها الى السجن الإنفرادي. وبعد ذلك يغتصبها الرجال الموجودون في المبنى، وبدوري كنت عرضة للإغتصاب الجماعي". وأضافت تقول: "لقد نقلوني الى مناطق مختلفة، وباعني مسلحو التنظيم لأشخاص كثر، ولكنني في النهاية تمكنت من الهرب".

وفي كتابها "عذراء سنجار" تروي نادية فصولاً عن المعاناة النفسية التي عاشتها مع وحوش بشرية يندر التاريخ أن يأتي بأمثالهم. كل هذا لأن أبا بكر البغدادي أباح لأنصاره كل ما لا يُستباح بهدف تخويف الأعداء من سطوته وظلمه. والدليل على ذلك أنه حوّل بإرشاداته الصلفة خريج الجامعات البريطانية محمد أموزاي، المعروف بالسفاح جون، الى شخص بربري، يجزّ أعناق الأبرياء أمام شاشة التلفزيون، ويلعب برؤوسهم مثلما كان يلعب "الفوتبول" في ملعب "نورث كنزينغتون" في لندن. وبسبب هذه الأساليب الوحشية التي أنست العالم مجازر "الخمير الحمر"، تضافرت الجهود للقضاء على هذه الظاهرة الإرهابية!

ويرى المحللون أن التراجع الذي شهده "داعش" في السنة الثانية من حكمه مرده الى انتهاج تنظيم عابر للحدود بحيث نقل إرهابه من الشرق الأوسط الى اوروبا.

تعترف نادية مراد بالدور الإيجابي الذي لعبته لمصلحتها في الأمم المتحدة أمل علم الدين كلوني، خصوصاً أن أمل عُرفت بنشاطها العالمي في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. لذلك شجعت نادية على عقد مؤتمر صحافي في قاعة الجمعية العامة، بينما هي ألقت خطاباً طالبت فيه الحكومة العراقية بضرورة محاكمة "الداعشيين" ممن اقترفوا جرائم بشعة ضد أقليات مسالمة. ونقلت عنها وكالات الأنباء دعوتها الى أهمية محاكمة المتطرفين، كونها وكيلة الدفاع عن النساء الايزيديات اللواتي تمكن من الفرار من تحت سلطة "تنظيم الدولة الإسلامية". وعلق سفير العراق على دعوة كلوني بأنها صعبة التحقيق باعتبار أن المحاكم في بغداد ترزح تحت أعباء خمسمئة دعوى بشأن جرائم ارتكبها تنظيم "داعش". وقال إن الدولة تستعد خلال المرحلة المقبلة لإجراء مصالحة عامة تشمل المكونات الدينية والاثنية، إضافة الى الأقليات التي يتألف منها النسيج الوطني العراقي.

الصيف الماضي تزوجت نادية مراد من شاب ينتمي الى عشيرتها يدعى عابد شمدين. وقد أقيمت حفلة الزواج المتواضعة بحضور شقيقتها التي سبقتها الى بلدة "توتغاد" الألمانية. وقد بكت كثيراً في تلك المناسبة، لأن والديها وأشقاءها الستة ماتوا على أيدي "جماعة داعش." وربما وجدت العزاء في زوج يتكلم لغتها ويؤمن بمعتقدها ويفهم كل كلمة كتبتها في سيرتها الذاتية.

تشير التقديرات الى أن عدد الايزيديين في العالم لا يزيد على نصف مليون نسمة، تقيم غالبيتهم شمال شرق الموصل في العراق وشمال سوريا. وهم يعتبرون أنفسهم طائفة موجودة منذ الأزل من نسل آدم. والايزيدية ليست ديانة تبشيرية، لذلك لا يقبل شيوخها أن ينضم اليها جدد لأن التقاليد تقضي بأن يكون مولوداً من أبوين ايزيديين. ولدى هذه الطائفة أماكنها المقدسة مثل مزار شرف الدين في جبل سنجار، ومعبد "لالش" في شمال غرب الموصل. وهو المعبد الذي يحجون اليه. وهم يتكلمون اللغة الكردية باللهجة الكرمانجية. ويمارسون تنظيماً دينياً وإدارياً وراثياً، ويملكون كتاباً مقدساً يسمى "الكتاب الأسود." ويرى المؤرخون أن هذه الديانة أصيلة في الشرق الأوسط، لكن المعلومات عنها نادرة بسبب مخاوفهم من حملات الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها على مر العصور. وكان آخرها على أيدي جماعة "داعش" التي ما زالت تحتجز الكثير من نسائهم وأطفالهم على شكل عبيد وجوارٍ. ولقد عاشت نادية مراد قسطاً من حياتها تحت وطأة هذا الكابوس المزعج. لكنها نجت بمساعدة أحد الأصدقاء على التحرر منه، والانتقال الى المانيا لتولد من جديد.

الأمم المتحدة عينت نادية سفيرة النوايا الحسنة لمكافحة المخدرات والجريمة والدفاع عن حقوق المرأة. وقد فرحت كثيراً عندما استضافتها هذا الأسبوع في الشارقة مؤسسة "القلب الكبير" التي يرعاها الشيخ سلطان بن محمد القاسمي. كما فرحت بعبارة التقدير التي انطلقت في العراق ضمن حملة على الشبكات الاجتماعية، وعنوانها: "شَكُو بيها" - أي ماذا فيها. وهي عبارة يطالب مطلقوها بوضع صورتي المهندسة المعمارية العالمية زها حديد... والناشطة الاجتماعية نادية مراد على أوراق النقد الرسمي.

وهذا يعني، في نظر المستشارة الألمانية انغيلا ميركل أن المحارة التي تعرضت قشرتها لجرح عميق أحدثته رمال الأمواج العاتية في حرب العراق، قد ولدت لؤلؤة نادرة إسمها نادية مراد...

صحافي لبناني