التاريخ: تشرين الأول ٢٧, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
مغيب الجمهوريّة - باسل صلّوخ
تسنّى لكلّ من ابتُلِي برحلةٍ مغادرة من بيروت هذا الصيف، ولاسيّما ذاك الخميس الأسود المشؤوم في 6 أيلول 2018، أن يشهد على أجلى صورة لانحطاط الاقتصاد السياسي، وقد انعكست داخل المطار في نموذجٍ مصغّر عن الوضع العام المحيط. فلنتجاهل لمرّة الأصوات الرتيبة الّتي لا تنفكّ تتذمّر من نقص الأموال اللازمة لإجراء أعمال التوسيع ولتطوير البنية التحتيّة، أو تلك الّتي لا تكلّ من تذكيرنا بالحتميّة الثقافيّة الّتي تحول دون اتّباع اللبنانيّين لأيّ قواعد. فما شهدناه في ذاك اليوم الّذي لا يُنسَى كان وليد الخيارات "الإنسانيّة بل المفرطة في إنسانيّتها"، النابعة من الحسابات الزبائنيّة الضيّقة، والّتي أنجبت الفوضى والذلّ الّذي أصبح بالنسبة إلى الكثيرين، باستثناء "النخبة"، الخبز اليومي في لبنان. فكيف لنا أن نفسّر بغير ذلك أنّ اللبنانيّين أنفسهم الّذين عجزوا عن الانتظار في صفّ مستقيم ذاك اليوم لم يتوانوا عن القيام بذلك عند صعودهم إلى طائراتهم في مطاراتٍ أخرى في العالم؟ أو السبب في توفّر المزيد من الشبابيك لتسجيل الوصول لعددٍ أقلّ من المسافرين في مطاراتٍ أخرى؟ من السذاجة إلقاء الّلوم على الناس لخروجهم عن القانون عندما يجدون أنفسهم في كنف هيكليّاتٍ من المحفّزات تحثّهم على الشذوذ عن القواعد لا بل تكافئهم عليه. أفلا يفترض بشخصيّات "حالة الطبيعة" الّتي تخيّلها طوماس هوبز أن تتصرّف بأنانيّةٍ ووحشيّةٍ، وإلّا هلكت؟ 

ويتجلّى ذلك في معدّلات حوادث العنف المتعذّر فهمها المروّعة والآخذة بالتزايد، ولا سيّما تلك الّتي تستهدف النساء والأطفال، والازدراء القاسي بالحاجات التنموية الأساسيّة لمناطق برمّتها، وما يرافق ذلك من ردّة فعلٍ متوقّعة تنعكس في الشذوذ عن حدود القانون والاقتصاد الوطني، وفي القيادة بعكس السير وقد باتت غاية بحدّ ذاتها عوضًا عن وسيلةٍ غير مشروعة لتسريع الوصول إلى الوجهة المنشودة - وهو واقعٌ من الحياة اللبنانيّة عبّر عنه زياد الرحباني بكلّ براعةٍ في مشهد "الفرن" الشهير في مسرحيّته "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" الّتي قدّمها بعد الحرب - أو في الطريقة الّتي تحوّل فيها المجال العام في أدقّ تفاصيله مشاعًا للأفراد، والسيّارات، والمتاجر، والشركات، والدرّاجات الناريّة، و"الفاليه باركينغ" الذي لا يُقهر، فلاحظوا درجة الكمال الّتي بلغها فنّ ركن السيّارات والركن في صفٍّ مزدوج عند مفارق الطرق. فكلّ هذه الأفعال الشاذّة عن القانون والّتي باتت مطبّعة تحوّل الجمهوريّة الّتي نعيش فيها إلى ساحة معركةٍ بائسة يقاتل فيها الفرد للبقاء على قيد الحياة؛ وهي "حالة الطبيعة" الفعليّة الّتي تحفزها المؤسّسات العامّة الّتي علّقت العمل بصلاحيّاتها وواجباتها التنظيميّة وباتت مرتعًا للمصالح الزبائنيّة.

لقد بلغ الانهيار الوخيم لجمهوريّة ما بعد الحرب مستوياتٍ خطيرة. واحتلّ لبنان المرتبة العليا بين دول غربي آسيا لناحية عدد مرضى السرطان نسبةً إلى عدد السكّان، في دليلٍ قّلما نحتاجه على الكارثة البيئيّة الفظيعة الّتي حلّت بالمشهد الطبيعي للبلد، الّذي كان ذات يومٍ نقيًّا حالمًا، بفعل عجز مؤسّسات الدولة عن تطبيق أبسط التنظيمات البيئيّة. وتقدّر منظّمة الصحّة العالميّة وجود 242 حالة سرطان لكلّ مئة ألف شخص في لبنان، إذ سُجِّلت 17000 حالة سرطان جديدة عام 2018 وحده. وتشير دراسةٌ أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعيّة عام 2017 إلى أنّ عدد الّلبنانيّين الّذين يعيشون بـ4 دولارات فقط في اليوم يبلغ زهاء 1.5 مليون شخص، وذلك من أصل مجموع عدد السكّان البالغ 5 مليون نسمة، في حين بلغت نسبة البطالة 36%.

وتتّخذ هذه الأرقام أبعادًا مهولة عند وضعها في سياقاتها الاقتصاديّة والماليّة الفعليّة: فلدينا معدّل نموّ اقتصادي يبلغ 2% وعجز مالي وصل إلى 8,3% من اجمالي الناتج المحلّي للعام 2018، ومعدّل تضخّم سجّل 5% عام 2017، ثمّ قفز إلى 7,6% في حزيران 2018 عند مقارنة مؤشر أسعار الاستهلاك على أساسٍ سنويّ، ودين عام يرتفع بسرعة صاروخيّة ليبلغ 81,9 مليار في حزيران 2018، ونسبة دين إلى اجمالي الناتج المحلّي سجّلت 152,8% للفترة نفسها.

ولكن على الرغم من هذه الظروف الاجتماعيّة - الاقتصاديّة البائسة والمؤشّرات الماليّة المقلقة، تواصل الطبقة السياسيّة في الجمهوريّة التصرّف وكأنّ لديها كلّ الوقت، وكأنّ الحرب قد وضعت أوزارها البارحة وليس قبل ثلاثة عقود. وتستحضر الروح السياسيّة الانتقاميّة والمناكفات بشأن الحصص الحكوميّة والحقائب الوزاريّة الانقسامات الطائفيّة الداخليّة المعهودة والخلافات المذهبيّة حول التوازن السياسيّ للقوى لفترة ما بعد الحرب، لأنّ أبالسة الحرب لا زالت تتربّص بلبنان.

ويُستعان بها أيضًا كأفضل طريقةٍ لذرّ الرماد في العيون وتشتيت الانتباه عن أيّ شكل من أشكال المحاسبة والمساءلة عن السياسات الاقتصاديّة والممارسات الزبائنيّة الّتي تمخّضت عن الأزمة الاقتصاديّة - الاجتماعيّة الحاليّة. طبعًا، لا يمكننا أن نتوقّع أي شيء آخر من الطبقة السياسيّة الّتي حكمت خلال حقبة ما بعد الحرب، وهي الضالعة في فنون تجاهل معاناة من تدّعي تمثيلهم، وتنتظر أبدًا الأعجوبة الجيوسياسيّة الّتي ستُجتَرَح في الّلحظة الأخيرة لانقاذ البلد من ويلاته الاقتصاديّة، إلّا أنّ هذه المعجزة قد لا تتحقّق هذه المرّة.

ولكن، إذا صحّ أنّ الأزمة الاجتماعيّة-الاقتصاديّة الحاليّة هي بهذا السوء، كما يتبيّن من المؤشّرات الواردة أعلاه، فأين توارى جميع المحتجّين؟ ولماذا لا نرى المعانين من هذه الظروف الاجتماعيّة - الاقتصاديّة الصعبة والخدمات الحكوميّة البائسة يتظاهرون على غرار أقرانهم في البصرة؟ فهل اتّخذوا منذ زمنٍ قرارهم بمغادرة الجمهوريّة وهم يقبعون الآن في المنفى؟ أو هل تسكتهم الوسائل التأديبيّة والهيمنة العقائديّة للمنظومة الطائفيّة؟ أو هل استقطبهم الاقتصاد السياسي الزبائني للمنظومة الطائفيّة وموقف الدولة المتراخي تجاه الفساد والشذوذ اليومي عن القانون؟ تجتمع بالطبع كل هذه الأسباب معًا. ونقتبس هنا عن لينين بتصرّف: إنّ الخدر أمام الكوارث الاجتماعيّة - الاقتصاديّة المدمّرة الّتي تحيط بنا من كلّ جانبٍ هو أعلى درجات الطائفيّة.

وقد يكون الدرس الفعلي الّذي يمكن للبنان استخلاصه من احتجاجات البصرة أنّ الشعب لا يمكنه التماس المسؤوليّة المدنيّة الّتي يقترن بها سلوك المواطنين الممتثلين للقانون، والحريصين على الجمهوريّة حاضرًا ومستقبلًا، إلّا إذا تحرّر من المشاعر الطائفيّة الضيّقة ومن الصفقات الاقتصاديّة السياسيّة الزبائنيّة الّتي وافق عليها طوعًا، ليولي الأولويّة عوضًا عن ذلك للمطالب والهويّات الاقتصادية - الاجتماعيّة وتلك الوطنيّة والعابرة للطوائف.

فعندئذٍ فقط سوف تعتبره الطبقة السياسيّة أكثر من مجرّد مجموعة من الرعايا الطائفيّين المطواعين الّذين يمكن تعبئتهم حسب الأهواء كحطب في معارك سياسيّة غير مجدية، وإذلالهم للوقوف في صفوف لا تنتهي وزحمات سير خانقة، أو اسكاتهم من خلال استراتيجيّات شعبويّة انتقائيّة. وإلّا فلا يمكنهم أن يلوموا إلّا أنفسهم، ما خلا تلك الأقليّة الصامتة الّتي تصرّ على اتّباع القانون، على مغيب الجمهوريّة اللبنانيّة الّذي بدأ يتكشّف فصولًا والّذي ستليه بلا شكّ الظلمة الحتميّة.

أستاذ مشارك في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الاميركية في بيروت

(المركز اللبناني للدراسات)