التاريخ: تشرين الأول ٢٥, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
اليسار اللبناني: إكرام الميِّت دفنه وإنجاب غيره - كريم قليلات
مع انتهاء الحرب الباردة برزت كمية هائلة من الدراسات والسياسات المواكبة والداعمة لهذا الحدث عبّدت لنا نهاية التاريخ ، إلا أن البشرية برهنت مرة أخرى على ان التاريخ لا ينتهي فقط بقرار سياسي او إرادة فكرية ولا بمخطط اقتصادي.

هذا التحدي أكدته المنظمات والاحزاب ذات الطابع العمالي اليساري في العالم، إلا أنّ تلك المنظمات كانت ولا تزال تُظهر طابع الممانع للعولمة الثقافية والاقتصادية فقط في بلادنا العنيدة، المنظمات اليسارية، بعدما كانت ذات وزنٍ وقيمة في الحرب الأهلية اللبنانية، أصبحت الآن هامشاً في فترة السلم والسلام. تمسكت بالفلكلور الموروث ومشت. وتحالفت مع النقيض، على الأقل عقائدياً، فأصبح جزء منها الخاسر الأكبر" والجزء الاخر أصبح الشهيد الأول... والمظلوم" لماذا فتح موضوع اليسار الآن؟

في لبنان حالياً لا يزال التاريخ مفتوحاً على مصراعيه: الحرب كانت فصلاً ولم تكن خاتمة.

في العموم، التاريخ عادة هو نقطة البداية وداعم لمستقبل البلاد والعباد أما عند عرب الحاضر عموماً ولبنان خصوصاً التاريخ للأسف هو نقطة نهاية.

نقطة نهاية بمعنى أن الانسان العربي يرى تاريخه مرجع حاضره وسبب وجوده وحضوره، فهو يعيش في حاضر العدم لا يَجد و لا يُجدّد ولا يُجيد لنفسه دوراً في البناء والتطور الكوني، فلا يبقى له سوى الدفاع عن هذا الماضي: بحسناته وسيئاته كالدفاع عن مزايا مرحوم ولى من دهر.

اكرام الميت دفنه.

لبنان ليس استثناء. فلا زالت مكونات المجتمع الاهلي اللبناني ترى في زعماء الحرب أبطالاً حاربوا معركة حق أو معركة "وجود" متناسين المعيار العلمي لتلك البطولات الطائفية . حتى "علمانيو" الحرب كانوا "ابطالاً" لرقعة أضيق مما كانوا يتوهمون.

أصبحنا الآن في عصر، العالم يتوحد بملله ، أعراقه و ثقافاته تحت راية الأخوّة البشرية رغم نزاعات المال و الطاقة، بينما لبنانيو الداخل لا زالوا يغازلون ماضيهم القاسي، مصدر "عزّتهم" وسبب تعلّقهم بسرابٍ واه.

أصبحت الثورة التكنولوجية الان نذيراً لمفهومنا للتاريخ، وفي لبنان للأسف ينتشي الساسة بـ"نبش القبور" في الإعلام. "الغلبة" لمن هو تحت التربة، كما الغلبة للمنطق "الميليشيوي" والمال، أما كل الباقي بأفكاره وأحزابه وجمهوره هو المغلوب الفعلي في الحرب الاهلية.

في عصر الصفقات وتسلّط المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وفي ظل الأزمة الاقتصادية القابعة، ما أحوجنا ليسارٍ يغلّب المصلحة العامة والوطنية على المصلحة الشخصية، يسارٍ مرن مع النظام الاقتصادي القائم على قاعدة "النمو هي الحقيقة الوحيدة الملموسة" على شاكلة الاحزاب العمالية في انكلترا وغيرها، وربما حزب عمالي مرتبط ومسانَد من الأحزاب العمالية في العالم. حبذا لو كان يساراً غير منسحب من الواقع غير متهرب من المسؤوليات الوطنية، ماضيه ليس نقطة نهايته بل دعامة لتموضع جديد يستفيد منه المزارع والعامل والموظف اللبناني من الطبقة الكادحة والطبقة المتوسطة، يطوّر ويقوّي النقابات عموماً ويسحب البساط عن احتكار العمال والموظفين ويفك الحجاب عن مرض الشعبوية والزبائنية في رؤسائها.

في ظاهرة غياب القيادات السياسية الفذة والقامات التاريخية في العالم العربي الحالي، ربما يكون لليسار فرصة.

نعود للبنان.

إن سياسة الدولة سياسة الأسواق المفتوحة مع الاتكال شبه الكامل على القطاع الخاص. لفترة ثلاثين عاماً تقريباً ترخي الدولة المران وتترك القطاع الخاص يخيط لباس لبنان الرسمي، مسقطةً الرّوادع الإدارية الرسمية وذلك تسهيلاً للاستثمار. وفي غياب حكم القانون القوي والرشيد أصبحت المؤسسات الرسمية مرتعاً للنفعية والاحتكار وسبباً جوهرياً للتضخّم الخطير في الفساد الإداري الناشئ أساساً منذ استقلال الـ٤٣.

اتفهم ولا ألوم ثقافة التهكم والسخرية تحديداً لدى الأوساط ذات الصبغة اليسارية في لبنان، فالفجوة موجودة في غياب ثقافة المشاركة في القرار والحكم. هناك أناس يحملهم المجتمع وآخرون يحملون المجتمع. الشعب اللبناني بمزارعيه، عماله وموظفيه تواق ليكون اليسار من الفريق الثاني.

ربما الأزمة الاقتصادية الحالية هي البيئة المناسبة لتكتل ينتج عنه حزب عصبه النقابات، بعيد عن الشعبوية لا بل عدوٍّ لها، يضمن حقوق العاملين في القطاع العام والخاص في ممارسته السياسية بما تراه تراكم خبراته مجتمعة ولا ما تمليه عليه الشعبوية الانفعالية والمزاجية، مرتبط وعلى اتساق مع العالم، وفي منافسة وطنية مع احزاب لبنان (المحافظة بمعظمها) لنصل إلى حياة سياسية صحية طبيعية مؤلفة من ضفة محافظة وضفة عمالية. عندها نرسم تاريخاً لأولادنا ذا نقطة بداية راسخة للمستقبل.