|
|
التاريخ: تشرين الأول ٢٣, ٢٠١٨ |
المصدر: جريدة النهار اللبنانية |
|
الدولة الفاشلة ليست قدراً - فادي تويني |
وصلتني تغريدة طريفة بعد خطاب بنيامين نتنياهو الأخير في الأمم المتحدة، تُثني على ردّ جبران باسيل على نتنياهو، معلّلةً بأنّ ردّ باسيل هو "ضربة للعدو لم يكن ينتظرها" تنسجم مع "علم فنون الحرب" بحسب كلاوزَفيتس. إلاّ أن روح الدُعابة في التغريدة لم يستسغها بعض الذين التوَت قلوبهم من ضرباتنا المتتالية للعدوّ. ومع ذلك، فبين ردٍّ وتغريدة، دخل علينا كارل فون كلاوزفيتس، الجنرال البروسي، صاحب الأطروحة الشهيرة ("في الحرب"، 1832) في الاستراتيجية الحربية وفلسفتها، دخل علينا إذاً من بوّابة لبنان الديبلوماسية وحركيّة رئيسها جبران باسيل.
فلن نجازف في التكهن لو أنّ كلاوزَفيتس معنا اليوم، هل كان ليعدّل خلاصاته (التي بناها على دراسة معارك ملك بروسيا فريدرِش الأكبر ومعارك نابوليون) في ضوء معارك لبنان الديبلوماسية بين منهاتن وبرج البراجنة.
ففي الأروقة الأممية في نيويورك، بدا لبنان وحيداً، يُملئ وقته بما تيسّر، في شيء من العزلة الديبلوماسية.
وأما في الضاحية، فالوضع اختلف، فلا عزلة فيها بل إنّ حرارة الاكتظاظ تغلب (علامة فارقة بين "البرج" وأبراج منهاتن)، فضلاً عن حرّية مطلقة في العمران، فوق الأرض وتحتها، تدحض هندسة نيويورك وصرامة معاييرها. وهي ربما البيئة الطبيعية لديبلوماسية لا يُخفي عنفوانها الظاهر اضطرابها المبطّن. فمن ملعب نادي العهد، أو في جواره، يصرّح الوزير باسيل قائلاً "إنّ نشر المصانع إن كان صحيحاً، فهو لا يصبّ في مصلحة المطار ولبنان، ولكن نرجّح ألا يكون صحيحاً"، ثم يردف معلّلاً "لا بعقل حزب الله وحكمته ولا في مصلحة لبنان يمكن أن يتم تخزين صواريخ من النوع الذي زعمته اسرائيل من دون أن تكون مرئية." فأكانت مرئية أم لم تكن، فباسيل "يرجّح" ألا يكون وجود المصانع صحيحاً، إنّما لا يؤكّد ذلك. ثم يعوّل على "عقل حزب الله وحكمته" لعدم تخزين الصواريخ قرب المطار. فلربما استندت "تمنّيات" باسيل الى سوابق حبّذا لو جنّبتنا حرب 2006، ومحاصرة السرايا، ثمّ إشعال شبه فتنة في 2008، ثمّ الانطلاق في حروب سوريا بعد 2011. وإن لم يكفِ هذا، فمزيد من "الحكمة" انتهى بالمحكمة الدولية الى اتهام شبكة تابعة للحزب في جريمة ليست من خبز الأحزاب السياسية اليومي. فإن أخطأنا في تقدير "حكمة" حزب الله، فربما نكون أفضل نصيباً في إدراك مفهومه للسّيادة وعلاقته بالدولة والمدينة، وما إذا كانت "الضاحية" نموذجاً لهما.
نعرّج سريعاً، إذاً، على مفهوم "السيادة" ولو تعدّدت الاجتهادات. فهي، أي السيادة، تحمل أوجهاً أربعة. أولاً، السّيادة الداخلية، وهي الأعتق، وتتمثّل في سلطة الكيان السياسيّ على شؤونه الداخلية. ثمّ هناك "سيادة الترابط"، أو السيادة التي تتحكّم في الانتقال عبر الحدود، على افتراض أنّ ثمة حدوداً. وأمّا الاعتراف المتبادل بين الدول فيعود الى سيادة القانون الدولي. وأخيراً، للسّيادة وجه يعنينا بصفة خاصّة، وهو "سيادة الدولة" (أو "السيادة الوستفالية" نسبةً الى معاهدة وستفاليا في العام 1648) والتي تتمثّل في منع القوى الخارجية من أن يكون لها سلطة في الشؤون الداخلية للدّولة المعنية. وهذه الأوجه الأربعة للسّيادة إنَما هي مستقلة ومترابطة في آن، كما أنّ توافرها أو عدمه يتفاوت بحسب الدول.
ففي الحالة اللبنانية، ليس خفيّاً أن في الاضطراب الداخلي علّةً خارجية تكمن في توسّل دُوَل، بين زمن وآخر، تناقضات الجماعات اللبنانية لتلبية مصلحة خاصّة بها، فتنسف بذلك وجهين معاً من وجوه السيادة اللبنانية، أوّلهما، "السيادة الوستفالية"، أو ردع الخارج عن الداخل، وثانيهما، السيادة الداخلية. وما حالة حزب الله وامساك إيران به إمساكاً مثلّثاً، مالياً وعسكرياً وعقائدياً، سوى النموذج غير الوحيد إنّما الأكثر كلفةً لتدخّل يجري على طائفة رئيسية كما يجري غيره على سواها، وإن لم يشمل عند الطوائف الأخرى، حتى إشعار آخر، العنصر العسكري.
فلا زيارة باسيل مع ضيوفه نادي العهد، ولا دخول الجيش من قبل الى الضاحية لمداهمة تجار المخدّرات كان ليتمّ، على الأغلب، من دون إذن مسبق من حزب الله. كما أن لا بناء عشوائياً ولا تكادس سكّانياً في الضاحية، ولا خرق للمعايير المُدنية من دون موافقة الحزب إن لم نقل تشجيعه. فعندما تصبح كثافة المدنيين "متراساً" فوق الأرض لحماية من تحتها، تنقلب المدينة على رأسها، فتتحوّل من مساحة مفتوحة على الحياة والعيش المدني المنتظم إلى خنادق مغلقة، يتهدّدها إمّا تآكل داخلي وإما حرب عليها من الخارج. وعلى هذا النحو، ينتقل لبنان من بلد كان واعداً ذات يوم إلى حزام بؤس شامل (bidonville) لا رادع فيه للفساد أو لعجز المؤسسات طالما تلازم هذا وذاك بتدخّل يحمي، فيما يحميه، سلطة سلاح لا سيادة حكومية عليه. فعجز الدولة في فرض سلطتها على أراضيها (في الضاحية أو خارجها) إنما هو تحديداً التعريف المعتمد لـ "الدولة الفاشلة".
فما المخرج إذاً؟
أوّلاً، العودة إلى الدستور. وهذا يجري على "المقاومة" – على أنها خارج السلطة المعترف بها ويناقض سلاحها السّيادة التي يُفترض أن تكون هي خاضعة لها – مثلما يجري على سواها، في ظروف حكم جعلت من خرق الدستور "عرفاً" آل إلى فشل مُدوٍّ في بناء الدولة. فاستناداً إلى الدستور، إنّ مجلس الوزراء هو صاحب "السلطة التي تخضع لها القوات المسلّحة" (المادة 65)، وأمّا رئيس الجمهورية، فهو "يسهر على احترام الدستور"، كما "هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة" (المادة 49). فلا شرعية إذاً لأيّ قوة مسلّحة إن لم تخضع لسلطة مجلس الوزراء، وإن لم يكن رئيس الجمهورية "قائدها الأعلى"، وهو الذي أقسم على حماية الدستور. فإن تلاعبنا بمادة دستورية على قدر كبير من الأهمية، لا بدّ أن نساوم على سواها، ولا "حجاب مستوراً" بين فريق لبنانيّ وفريق، فشذوذ واحد يعلّل فساد الآخر.
ثانياً، آن للحكومة اللبنانية أن تلجأ إلى مجلس الأمن للمطالبة برفع الأيدي الخارجية (المختلفة والمُتَخالفة) عن لبنان، ووضع "طوق" قانوني وعسكري لحمايته، ريثما يتسنّى للدولة فرض دستورها وسلطتها داخليّاً، والاستثمار في اقتصادها، وتمويل قواتها المسلّحة إلى أرفع تجهيز. وإن اعترض فريق لبناني على سيادة الدولة تحت الغطاء الأممي، فهل لأنّه ينحاز إلى سيادة دولة (أو دُوَل) أخرى، تارةً معه وتارةً ضدّه، إنما في كلّ حال على حساب الدولة اللبنانية؟
رُبّ مُشكّك قد يعترض على طموحنا السياديّ بحجّة "ظرف إقليمي" غير مؤات. والحقّ يُقال أنّ لا الإقليم سيتبدّل ولا الشرذمة الداخلية تُيسّر المهمّة. غير أنّ إنجاز السيادة ليس أكثر عُسراً من تحرير الجنوب أو خروج الجيش السوري من لبنان، بل هو تكملة لهما. ولكن شرط ذلك هو أن نبادر أولاً إلى عدم التكاذب ("سلاح المقاومة شأن داخليّ")، والكفّ عن مزايدات لا طائل منها ("حق المقاومة حتى التحرير، إلخ..."، والكلام لباسيل)، ثمّ أن نصيغ سياسة تحمي ظهر لبنان. فإن لم نرجّح أن يعكف باسيل، من أجل ذلك، على كتابات كلاوزَفيتس الاستراتيجية، فأضعف الإيمان أن يعيَ هو ما يمليه رجحان العقل، إن لم نقل الأخلاق، وحسابات موازين ليست لصالح لبنان، ومصلحة وطنية عُليا أَجدر من طموحاته الشخصيّة. فللّبنانيين حقّ في دولة غير فاشلة في حِمى الدستور، تتمتّع بسيادة لا تُنتهك داخليّاً ولا خارجيّاً.
باحث وناشط في الشأن العام |
|