| | التاريخ: تشرين الأول ٢١, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | مناقشة في المقال الأخير لجمال الخاشقجي - جهاد الزين | سأفترض أن الزميل جمال الخاشقجي لم يتعرّض للمصير الوحشي الذي يُحكى عنه ولا زال على قيد الحياة، هذا المصير الذي لا يمس فقط مشاعر وأمن كل صحافي في المنطقة بل أيضا يمس كل مواطن في هذه المنطقة، منطقتنا، سمِّها ما شئت.
سأفترض ذلك فقط لكي أناقش مقاله الأخير الذي نشرته صفحة الرأي في"الواشنطن بوست" (17-10-2018) كما كان من الممكن أن أفعل ربما مع نصّه في ظروف عادية وكما أفعل مع بعض نصوص لغيره من الزملاء والكتاب.
يمنحنا مقال الخاشقجي فرصة التفكير بمنبر أو منابر عربية غير خاضعة، كما يريد، أو كما يقترح، للسلطات الوطنية في المنطقة. واضح أن المقصود هو منابر صادرة باللغة العربية. لذلك كنت سأقول له بدايةً أن يضم إلى اقتراحه منابر متحررة تصدر باللغتين التركية، وطبعا الإيرانية، لأن نقص بل غياب حريات التعبير بات مثلّثاً عربيا تركيا إيرانيا. "الستار الحديدي" الذي تحدث عنه لكن بصيغته المثلّثة.
والملاحظة الثانية التي كنت سأبديها على نصه قبل أن أبدأ بمناقشة المضمون هي إيراده لمجاملة سياسية تُضْعِف موضوعية النص وتُحْدِث خللاً فيه حين يعتبر دولة قطر "واحة"من "واحات" قليلة لا زالت "تجسد روح الربيع العربي". الدور القطَري ديناميكي ماليا وإعلاميا واقتصادياً لا شك، ولكن بماذا يختلف سياسيا عن غيره على المستوى العربي من حيث حصر وسائل إعلامه بخط سياسي واحد هو الخط الرسمي، وبماذا يختلف عن الحالتين الإيرانية تقليديا والتركية في السنوات الأخيرة التي تلغي أي تنوع جوهري في الإعلام خارج خط السلطة؟
لا أقوم بمقارنات هنا في أحجام الدول والقوى - والضحايا وأبرزها حالياً جمال - هذا موضوع مختلف. إنني ألتقطُ فقط النقطة التي طرحها الزميل الخاشقجي لأدخل إلى صلب الموضوع الذي أثاره في مقاله الأخير. فمناقشة الفكرة علينا أن ننظر إليها كما لو أنها "وصيَّةٌ" يتركها لنا الزميل المفقود، وصيّة أن نناقش ونساجل كما لو كان حيّاً. ( أنا لا معرفة لي شخصية به وهذه مجرد مصادفة قياسا بزملاء سعوديين عرفتهم بعد عملهم في صحيفتي "الحياة" و "الشرق الأوسط" من موقعي في صحيفتي "السفير" ثم "النهار").
الفكرة الجوهرية في مقاله هي إمكان تأسيس العرب وسائل إعلام عابرة لدولهم أو "بان عربية" تمكّن العرب من قراءة بلغتهم لتطورات العالم وأنماط مواجهته لقضاياه. وهو في شكره لـ"الواشنطن بوست" كأنه يلمّح إلى انخراط مؤسسات غربية بهذه الأهمية في مشروعه للاستقلالية المعلوماتية والتوجيهية عن الأنظمة. ففي الولايات المتحدة، حيث الصحافة الأكثر حرية في العالم، ومن دون منازع، من الطبيعي أن يتأثّر أي صحافي وليس جمال الخاشقجي وحده بهذه الحرية ويسعى للاستفادة منها، فرديا أو جَماعياً.
لكن السؤال الأساسي هل هو مشروع واقعي؟ أظن أن المشكلة فيه ليست عدم واقعيته، بل أنه موجود ولا يحتاج إلى تأسيس من وجهة نظر العولمة المعلوماتية. لذلك هنا الخصوصية اللغوية العربية ليست هي جوهر العجز القائم رغم كل أهميتها في مخاطبة الشعوب داخليا بينما النخب العربية، كما التركية والإيرانية، موجودة على مجاري وروافد المعلومات الأساسية الدائرة في العالم.
كنتُ سأقول لمقال الخاشقجي أن الربط الفعال بين السياسي والإعلامي ليس إعلاميا في عالم "غير مستقل" لم تُنتج عولمتُه قدرةً أكيدة على التغيير السياسي. بهذا المعنى فكرة "الحريات" هي فكرة "معزولة" سياسيا وليس إعلاميّاً على المستويات الدولية والقارية والإقليمية، قياسا بالمصالح الكبرى المعلنة وفي مقدمتها المصالح الغربية بل على رأسها المصالح الغربية.
الأستاذ جمال آتٍ من خبرة طويلة في العمل لخدمة البروباغندا الحكومية السعودية وفي مؤسسات صحافية كانت، سياسيا، تعبيراً عن نجاح ملفت ومثير للسياسة السعودية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، في تحقيق نفوذ كبير بين نخب عربية ليبرالية وحتى يسارية منخرطة في معارضة أنظمة خارج منطقة الخليج. لذلك كان من المفترَض أنه يعرف جيدا، أن الإعلامي لا يستطيع أن يصنع السياسي. العكس هو الصحيح.
في زمن انهيار شهدته لا دول في المنطقة فقط، بل مجتمعات بكاملها أيضا، أثبتت تجارب "الربيع العربي" عمقَ الأزمة التكوينية التي تعيشها مجتمعاتنا وهي عدم جهوزيتها لتلقي فكرة التغيير دون انفجارها. هذا ليس طبعا تبريراً للأنظمة غير الديموقراطية، بل هو تشديد على أين وصلنا. وهو كان يعرف تماما أن قوى طرحت نفسها للتغيير تحولت إلى قوة تفجير حروب طائفية مذهبية كـ"الإخوان المسلمين" الذين حالت، من حسن الحظ، تقاليد قوة الجيش المصري والثقافة السلمية للمجتمع المصري دون نجاحهم في تفجير وادي النيل. ناهيك عن مسؤولية قوى عربية كان هو أحد الناطقين المحترمين باسم بعضها لفترة طويلة في تحويل "الربيع العربي" إلى مجال صراعات نفوذ لا علاقة لها عملياً بالحريات المشتهاة.
يغيب جمال الخاشقجي وهو يحمل راية قضية نبيلة هي قضية الحريات. النقاش لا يدور على نبل القضية وضرورتها بل على شروطها السياسية لا الإعلامية، والأولى أصعب من الثانية. لكن من المفارقات العميقة غير المباشرة أن مقال الخاشقجي بذاته نموذج لدور ما باتت تبحث عنه النخب العربية والتركية والإيرانية المقيمة في الخارج أو الأدق أن هذا الدور هو الذي يبحث عن هذه النخب في واشنطن وباريس ولندن وبرلين....
أخيراً، كما "أسمع" الآن العذابات الهائلة لروح جمال الخاشقجي في جحيمه الذي لا نعرف، فإنني في الوقت نفسه أسمع أنين عشرات الصحافيين سجناء السجون العربية والتركية والإيرانية، و"أسمع" قبلهم في تاريخنا المعاصر آلام الضحايا العديدين في دول مختلفة لصحافيين قتلتهم السلطات السياسية. | |
|