|
|
التاريخ: تشرين الأول ١٥, ٢٠١٨ |
المصدر: جريدة النهار اللبنانية |
|
مصالحة الهويّات - طارق متري |
في ظل اوضاعنا المضطربة في غير بلد عربي، تبدو انقساماتنا الحاضرة، على اختلاف مسبّباتها، تعبيراً عن الضيق في التنوّع، وتغليباً للفصل بين المتنوعين عوض الوصل بينهم. والفصل هذا ليس بين الجماعات التاريخية، من طوائف ومذاهب فحسب، انما ايضا بين ابناء هذه الجماعات نفسها. ولعلّ اعادة تشكيل الهويات وممارسة السياسة على اساسها، فيما الصراع على السلطة والاستحواذ على الدولة او بقاياها يبلغ اشده، تجعل من الاختلاف مفسدة، ومن التنوع مدعاة للفرقة. ونشهد ذلك، على رغم مواصلة التغني بالتنوع بصفته مصدر اعتزاز بحضارتنا التي استوعبت المتنوعين، وفتحت مجالات واسعة امام العيش معاً بسلام والاعتراف بالاختلاف، ومعه نوع من الاقرار الضمني بالحق فيه.
مما لا شك فيه ان التنازع باسم الهويات على درجة بالغة من التعقيد. فنحن نتأرجح بين هوياتنا المتنوعة، وننزع احيانا الى إشهار الواحدة ونفي اخرياتها. وهذه النزعة الاخيرة التي تكاد تسود حين تحتدم الخلافات، ليست موروثة مثلما هي نتاج الحداثة المأزومة في مجتمعاتنا. وهي تتأثر، وإن بنسب متفاوتة، بما يشهده عالم اليوم، في مناطق وبلدان كثيرة.
فازاء العولمة الثقافية التي تجرها عربة العولمة الاقتصادية وتدفع بالناس الى التماثل، يقوى السعي الشغوف الى الفرادة والتمييز. ويسلك هذا السعي احياناً طريق تضخيم الفوارق وتوسّلها في التعبئة السياسية، تخويفاً من الآخر المختلف او عداء له. ويجنح تأكيد الذات، الفردية او الجمعية، الى العنف لا سيما حيث تضعف روابط المواطنة وتتراجع المساواة في دولة الحق.
في الماضي، شهد لبنان توجساً عند فئات من المسيحيين حيال عروبة تهدد المصير اللبناني، وتبرر تدخل الآخرين في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة. واختلطت أسباب السجال في مسائل العروبة واللبنانية. وكادت الحرب التي فجّرها اللبنانيون وانفجرت بهم، ان تذهب بالانتماء اللبناني المشترك إلى غير رجعة. لكن ذلك لم يكن انتصاراً للعروبة على اللبنانية، بل انكساراً للبنانية أمام الطائفية. وعندما خرجوا من الحرب، مالوا للإعراض عن السجال في قضية العروبة. ولعل ذلك اظهر رغبة في اجتناب ما يوقظ فتنة لم تنم عميقاً، او في تحقيق لون من المصالحة الواقعية بين لبنانية لبنان وعروبته.
غير ان الممارسات السياسية لم تساهم في تعزيز الوطنية اللبنانية، بل اضعفتها لمصلحة الإنتماءات الطائفية. وانزلق كثيرون الى الجوهرانية، اي النظر الى الجماعة الطائفية بوصفها تجسيداً او صورةً متكررة لجوهر ابدي ثابت. لعلّ هذه النزعة تترصدنا اليوم، اكثر من الامس، بقوة سياسات الهوية الطائفية والمذهبية في غير بلد عربي. وهي تصل بنا الى سرديات تاريخية متعارضة، وتجديد عداوات طويت صفحتها. وتصل بنا ايضاً الى التوهم ان لكل جماعة طائفية شخصية متجانسة وطبائع تختص بها. فغالباً ما توصف الجماعة انطلاقاً من ملاحظة متسرّعة للتشابه بين الافراد المنتمين اليها، فتُنسَب اليها حقيقة ما فوق التاريخية.
واليوم، هناك من يرى لبنان والمشرق العربي على صورة فسيفساء. لكنه يقف عند حدود الطوائف، فلا ينظر الى كل طائفة بوصفها ايضاً نوعاً من الفسيفساء. لقد غالى الكثيرون، في ظل هزالة البنى التي تدعم الهوية الوطنية، في توظيف الرمزيات والمشاعر الدينية في خدمة الهويات الطائفية. وتناسوا ان الخصوصيات الدينية لا تهدد بالضرورة الاساس الاجتماعي والثقافي المشترك للذين يعيشون على أرض واحدة، ولا سائر المشتركات الإنسانية.
كثيرا ما يحكى عن خصوصية لبنان بوصفه وطن "الرسالة"، مؤهلا ان يصير "مركزا" لحوار الثقافات والأديان. لعل تحقيق بعض ما تأمر به تلك الرسالة متصل بقدرة ابنائه، نخبا ثقافية وسياسية ومواطنين، على التأليف الحقيقي بين الاغتناء بالتنوع والحرص على الوحدة، في السياسة كما في الثقافة، والسعي الى تجديد الفكرتين اللبنانية والعربية، والعمل على مصالحة الهويات في عصر "صدام الجهالات".
مدير معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة الجامعة الأميركية في بيروت
|
|