|
|
التاريخ: تشرين الأول ٢, ٢٠١٨ |
المصدر: جريدة النهار اللبنانية |
|
الهويات المجروحة والمواطنة - منى فياض |
أذكر أن ابني تعرض للدغة دبور في إصبعه في منتصف العام الثالث من عمره فتورم والتهب، فكان يحمله طوال النهار متألما شاكيا ويبرزه كلما التقى أحدا كي يقاسمه وجعه. حول كل انتباهه وطاقته إلى هذا الإصبع المؤلم.
ولا بد أن معظمكم يعرف معنى ألم الضرس المصاب، يتحول كياننا كله إلى ضرس موجع.
أمرنا مع الهوية هو على شاكلة الإصبع والضرس المصابين. الهوية المهددة تستقطب جل انتباهنا وطاقتنا.
تتميز الحقبة الراهنة بشيوع الحروب والصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية. ترتكب جرائم قتل وإبادة باسم الهويات الدينية والقومية والإثنية، تترافق مع العمل على إحداث تحولات ديموغرافية دائمة عبر الترانسفير وتفريغ الأرض من أصحابها وتهجيرهم وتجنيس المرتزقة بدلا عنهم. ما جعل من مفهوم "الهوية" الأكثر تداولا من أي حقبة ماضية.
صارت الهوية محور بحث الأنثروبولوجيين والسوسيولوجيين والنفسانيين والسياسيين المعنيين بالأقليات والجماعات الدينية والإثنية.
يتفق الكثيرون على أن مفهوم الهوية ملتبس. اختزل البعض دلالات استعماله في خمسة استعمالات، تتمثل من كون الهوية "مرجعية ناظمة" و"نواة فردية أو جماعية"، و"نتاج الفعل الاجتماعي والسياسي"، حيث تستعمل في الخطابات السياسية "كمحرض على التضامن والوحدة"، أو بصفتها "نتاجا لتعدد وتنافس الخطابات". وهذه التعريفات تكشف مدى التباس مفهوم "الهوية" وتعقيده وتباين استعمالاته.
في حين تميزت الصراعات التي اندلعت في المجتمع العراقي بكونها تقوم على أسس طائفية/مذهبية وإثنية؛ نجد أن النظام في سورية، الذي تتحكم به طائفة ـ أقلية حاكمة، استهدف المدنيين من أفراد وجماعات تنتمي غالبيتها للمذهب السني. الأمر الذي جعل الصراع يتخذ مظهر صراع هويات طائفية وعرقية خصوصا بعد تدخل إيران المذهبية وميليشياتها. تشرد الملايين من السكان إثر ذلك بوتيرة غير مسبوقة في التاريخ. وتم تهميش فئات اجتماعية كاملة في المجتمع ووضعوا في حالة استثنائية باتوا يشعرون معها بالتهديد على أساس طائفي.
في صراع الهويات تتعرف الغالبية على نفسها بالانتماء الأكثر عرضة للتهجم فنتماهى معه بالضبط سواء تبنته علنا أو خفية
طبيعي أن يتركز اهتمام الشخص في هذه الوضعية على المكون المقموع ويتمحور حوله. سبق لأمين معلوف أن أشار في كتابه "هويات قاتلة" أن الشخص وبعد أن يعدد لمحاوره مختلف انتماءاته يتوجه إليه المحاور قائلا: "قل لي ماذا تشعر في قرارة نفسك؟". وكأن "قرارة" نفسه لا بد أن ترتكز إلى انتماء وحيد فقط هو الجوهر المولود معه وغير قابل للتغيير. يرغمنا هذا على اختيار معسكر نقف فيه لنلتحق بصفوف قبيلتنا. هذا ما يسهم في تصنيع القتلة! بحسب معلوف.
في صراع الهويات تتعرف الغالبية على نفسها بالانتماء الأكثر عرضة للتهجم فنتماهى معه بالضبط سواء تبنته علنا أو خفية. سواء أكان اللون أو الدين أو اللغة أو الطبقة ليجتاح الهوية بأكملها. أما الذين يتشاركون فيه فيشعرون بالتضامن فيجتمعون ويستنفرون ويحمس بعضهم بعضا ويهاجمون من هم في مواجهتهم. يصبح التأكيد على الهوية فعل شجاعة وتحرر.
وغني عن القول إن ما يحدد انتماء الفرد إلى جماعة معينة هو في الأساس الرغبة في أن يشبههم وينال حبهم ورضاهم. فيخضع لتأثيرهم عليه، أي أهله وأبناء دينه الذين يسعون لامتلاكه. كما يتأثر بمن هم في مواجهته لأنهم يحاولون إلغاءه.
من هنا تحدث جروح الهوية لأن الآخرين يشعرونه بأنه مختلف وأن اختلافه وسمٌ له وعزل فيزيدونه تمسكا به. هذه الجروح هي التي تحدد في كل مرحلة من مراحل الحياة موقف الافراد من انتماءاتهم كما تحدد تراتبية هذه الانتماءات.
يعني هذا اختزال الهوية إلى انتماء واحد يصنف الناس داخل موقف منحاز وغير متسامح وتسلطي. وكأن ما تبقى من سيرة الإنسان الحر مثل قناعاته المكتسبة، أولوياته، حساسيته الخاصة وأهواءه أي حياته، لا يحسب لها حساب.
الغريب في هذه المقاربة أنها تهمل أن هذا الانتماء الحصري هو نفسه متغير وذو أوجه. فتارة يكون الانتماء في نظر البعض للوطن، ولكنه في نظر البعض الآخر يكون للدين، أو للطبقة، أو للغة. ما يعني نسبية فكرة الانتماء نفسها؛ ففي كل مرة يشعر فيها الناس أنهم مهددون في إيمانهم يبرز هذا الانتماء كمحدد حصري لهويتهم الكاملة. وحيث يطال التهديد اللغة الأم أو الجماعة الإeنية لا يترددون في مواجهة ضارية مع أبناء دينهم نفسه كما يحصل بين الأتراك والأكراد المسلمين. أو بين العرب أنفسهم في الصراع السني الشيعي المستجد. غالبا ما تكون هويتنا المعلنة منسوخة سلبا عن هوية خصمنا.
الهوية الفردية
تحيل الهوية الفردية إلى ما لدى الشخص من تفرد وخصائص. وهي تشمل مفاهيم مثل وعي الذات وتمثلها، والثابت والفريد وكل ما هو نفسه أي المتماثل عند الشخص الواحد. إلى حد يجعل من أماريتا صن يتساءل: هل يتطابق الفرد مع نفسه؟ بمعنى آخر هل ينظر الشخص في نفسه إلى نفسه كما يُنظر إليه من الخارج؟ فكيف يمكن تعريف ما هو غير ثابت بشكل ميكانيكي كمتماثل مع نفسه؟ فكيف هي الحال عندما نجعل من هذه الهوية متطابقة في هوية واحدة مع الآخرين أو جماعة معينة؟
هويتي هي ما يجعلني لا أشبه أي إنسان آخر، لأنها نتاج تركيب ذهني، وهي عملية واعية حينا وغير واعية أحيانا أخرى مرتبطة بتاريخ الشخص وتجاربه. فالهوية ليست معطى ثابتا، محددا، جامدا، إنها عملية جمع وتفضيل، منفتحة على مؤثرات عدة، ومستمرة مدى الحياة.
هل الهوية اللبنانية أو السورية أو العراقية مهددة؟
نسمع كثيرا عن شعوب لبنانية وشعوب سورية أو عراقية، وعن غلبة الهوية الطائفية على الهوية الوطنية. فما هي صحة هذه التوصيفات؟
يشكل مفهوم "الهوية الاجتماعية" عنصرا ديناميكيا. فالهوية الاجتماعية هي "وعي" الفرد بانتمائه إلى جماعة تاريخية توفر له إطارا وظيفيا لإشباع حاجته إلى الأمن النفسي، وإطارا مرجعيا لصياغة منظومة قيمية ـ ثقافية تنظم إدراكه للعالم وتفاعله معه وتقييمه له. يتم هذا في إطار السعي نحو إنجاز أهداف جماعية مشتركة، دون أن يتعارض ذلك مع أهدافه الفردية الخاصة.
يعرف إرنست رينان الوطن كروح وكمبدأً فكري. شيئان يشكلان شيئا واحدا في الواقع أي روح هذا المبدأ الفكري. أحدهما في الماضي والآخر في الحاضر. أحدهما امتلاك تراث مشترك وغني من الذكريات والتجارب، والآخر هو التوافق الراهن والرغبة في العيش المشترك، وإرادة الاستمرار في اعتبار هذا التراث الموروث غير قابل للاقتسام. وكما أن الإنسان لا يصنع نفسه بنفسه بل بتفاعله مع المحيط، الوطن أيضا كالفرد، هو نتاج ماض طويل وجهود وتضحيات وتفان. إنه امتلاك أمجاد مشتركة في الماضي وإرادة مشتركة في الحاضر؛ إنجاز أعمال كبيرة معا والرغبة بإنجاز غيرها أيضا؛ هذه هي الشروط الأساسية لكي نكون شعبا.
الهوية الاجتماعية للفرد لا تتماثل على الدوام مع هوية الإطار السياسي للبقعة الجغرافية التي يحيا فيها
ويمكن القول إن هذه التوصيفات تنطبق بنسب متفاوتة على أفراد الجماعة البشرية القاطنة ضمن الحدود الجغرافية للدولة اللبنانية أو السورية والعراقية. والأحداث الراهنة في العراق تبرهن ذلك.
ما ينبغي تسجيله في هذا المجال أن الأحداث السياسية تتميز بأنها سريعة ومتغيرة أما سيكولوجيا البشر فعميقة وبطيئة وبالتالي لا تتغير مع التغيرات والتبدلات السياسية الآنية.
كما أن الهوية الاجتماعية للفرد لا تتماثل على الدوام مع هوية الإطار السياسي للبقعة الجغرافية التي يحيا فيها. وأهم مثال على ذلك الفلسطينيون الإسرائيليون، والعرب أنفسهم حيث أن وجودهم في دول وطنية ذات أطر سياسية متباينة لم يمنع من ديمومة مفهوم العروبة كجزء مكمل للهوية لديهم وكأحد أوجه الهوية الاجتماعية. أيضا لم يمنع تبعثر الأكراد في عدة أقاليم متجاورة من تمسكهم النفسي الصلب بهويتهم الكردية التاريخية.
إن المنظومة النفسية الجمعية لأي جماعة، تتشكل على امتداد زمني طويل، ولا تطرأ عليها تغيرات جوهرية إلا بعد وقت طويل أيضا؛ بمعنى أن الحدث السياسي ـ بسبب سرعته ـ قد يفرض شروطا تاريخية معينة على السلوك الظاهري لجماعة ما، من دون أن يعني ذلك قدرته بالضرورة على إحداث تغييرات مماثلة لمنطق تلك الشروط في المنظومة النفسية الداخلية لتلك الجماعة. فالحدث السياسي (خصوصا عندما يكون مفروضا من الخارج) يتحرك ويموضع نفسه في الزمان أسرع بكثير مما يفعله الحدث السيكولوجي المنبثق عنه لدى الفرد والجماعة، بالرغم من الصلة الجدلية بين الحدثين. وهذا ما يفسر قدرة شعوب كثيرة على الاحتفاظ بهويتها الوطنية والثقافية على مدى سنين طويلة من الاحتلالات وحكم الجيوش الاستعمارية الغازية لها.
هذا المقال ينشر ايضاً على صفحة قناة "الحرة" |
|