|
|
التاريخ: تشرين الأول ٢, ٢٠١٨ |
المصدر: جريدة النهار اللبنانية |
|
مراجعة كتاب "منع فلسطين" - تشارلز كايزر |
هذا الكتاب الرائع الذي وضعه باحث أميركي يهودي شاب هو ثمرة تحوّل عاطفي وفكري مبكر.
نشأ سيث أنزيسكا "مع تعلّق شديد بالصهيونية"، وأُرسِل إلى مدرسة يهودية دينية في غوش عتصيون عندما كان في الـ18 من عمره. كانت غوش عتصيون مقر كيبوتز أنشئ قبل حرب الاستقلال الإسرائيلية. عام 1948، وقعت تحت السيطرة الأردنية، وبقيت جزءاً من المملكة الهاشمية إلى حين غزو إسرائيل للضفة الغربية في حرب الستة أيام عام 1967.
تزامن وصول أنزيسكا إليها عام 2001 مع ذروة الانتفاضة الثانية. الصورة التي كان قد كوّنها عن إسرائيل البيبلية عن بعد، وتحديداً من مدينة نيويورك، بدّدتها جولاته في الحافلة عبر الضفة الغربية.
يكتب: "مع الهوس الطاغي بأرض إسرائيل، بدا أن لا أحد يلتفت كثيراً للسكّان غير اليهود الذين يقيمون هناك. كيف يُعقَل أننا لم نرَهم؟ لماذا لم يكن بإمكان الفلسطينيين أن يتنقلوا بحرية في المكان نفسه حيث كان باستطاعتي أنا، المواطن الأميركي، أن أتنقل ذهاباً وإياباً كما يحلو لي؟ بدا لي أن الفارق الوحيد كان مستنداً إلى الدين أو الإثنية، منظومة لليهود وأخرى للعرب".
منذ ذلك الوقت، التقى أنزيسكا عدداً كبيراً من اليهود الأميركيين الآخرين الذين لمسوا أيضاً "تناقضاً وشعروا حتى بأنهم خدعوا أنفسهم في إطار شعور يكمن في صلب بعض الحقائق غير المريحة عن العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين".
انكشاف هذه الأمور دفع بأنزيسكا إلى التقصّي، على امتداد سنوات طويلة، عن اتفاقات كمب ديفيد التي أُبرِمت عام 1978، وما أعقبها من مفاوضات متقطّعة ولا تنتهي فصولاً، ثم اتفاقات أوسلو لعام 1993. لقد ولّد جمعه بين الأبحاث المتميزة والمخاوف الشخصية واحداً من الأعمال الأقوى وقعاً التي قرأتها في مجال التاريخ السياسي والديبلوماسي.
على الرغم من أن أنزيسكا لا يأتي مطلقاً على ذكر المنظمة، إلا أنه متعاطف جداً مع "جيه ستريت"، "البيت السياسي للأميركيين الداعمين لإسرائيل والسلام" الذين يؤمنون بحل الدولتين. غير أن أحكامه متأنّية ودقيقة جداً بحيث إن كتابه يُقرأ وكأننا أمام كتاب تاريخ، وهو بعيد تماماً عن البروباغندا.
تُركّز الحجة الأساسية في كتاب "منع فلسطين" (Preventing Palestine) على اتفاقات كمب ديفيد التي ترأسها جيمي كارتر عام 1978، ودفعت برئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغن، إلى الموافقة على التخلي عن سيناء لمصر، مقابل تعهّد الرئيس المصري أنور السادات بإنهاء حالة الحرب والاعتراف بدولة إسرائيل.
لقد اعتُبِر هذا الأمر على نطاق واسع بأنه انتصار كبير لكارتر، والقفزة الأكبر الوحيدة نحو السلام في الشرق الأوسط منذ انتهاء حرب الستة أيام.
إنما لدى أنزيسكا وجهة نظر مختلفة. فهو يعتبر أن جذور المواجهة التي أعقبت كمب ديفيد واستمرت عقوداً، تعود إلى انشغال السادات باستعادة السيطرة على سيناء، ما أتاح لبيغن التعجيل في بناء المستوطنات في الضفة الغربية في إطار عمليةٍ استمرّت بلا هوادة. ويعتقد أن استعداد الرئيس المصري للتفاوض حول الهدف غير المتبلور المتمثل بـ"الحكم الذاتي" الفلسطيني يقع في صلب المأزق الذي ساد آنذاك.
يكتب أنزيسكا: "تسبّبت اللغة التي قامت عليها المفاوضات الأولى – الحكم الذاتي وليس السيادة، الحكم الذاتي المحدود - باستفحال الظروف على الأرض وتفكُّك الآليات السياسية التي من شأنها أن تتيح تسوية عادلة للمسألة الفلسطينية".
رأت الولايات المتحدة في زيارة السادات إلى القدس مجازفة كبيرة بالنسبة إلى مساعي السلام. غير أن أنزيسكا يعتقد أنها شكّلت أيضاً بداية نهاية الاستقلال الفلسطيني. ويكتب في هذا الإطار أن تصميم بيغن على بناء مزيد من المستوطنات "لم يكن ممكناً لولا هذه التنازلات"، مضيفاً أن المستوطنات أصبحت بمثابة "المرآة والإنكار... لإمكانية السيادة الفلسطينية". عام 1977، كان هناك نحو 4000 مستوطن يهودي في الضفة الغربية وغزة. وبحلول عام 1992، عشية أوسلو، أصبح العدد أكثر من مئة ألف.
يتطرق قسم مهم جداً في الكتاب إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وتداعياته الكارثية. لقد اعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون أن "غياب الحل الديبلوماسي للمسألة الفلسطينية بعد اتفاقات كمب ديفيد يستدعي عرضاً للقوة يقود بطريقة ما إلى إلحاق الهزيمة بالفلسطينيين في معقلهم اللبناني". فقد ظنّ أنه بإمكانه "تدمير البنى التحتية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية في مختلف أنحاء لبنان وتقويض المنظمة ككيان سياسي بغية ’تحطيم العمود الفقري للقومية الفلسطينية‘ وتسهيل استيعاب الضفة الغربية من قبل إسرائيل".
وجد أنزيسكا إثباتاً في المفكّرات التي دوّن فيها المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية تشارلز هيل ملاحظاته، بأن وزير الخارجية الأميركي ألكسندر هيغ أعطى شارون فعلياً الضوء الأخضر: "لا يمكننا أن نقول لك، لا تدافع عن مصالحكم. إنما لدينا وجهة نظرنا. يجب أن يكون هناك استفزاز واضح". أدّى الاجتياح إلى وقوع مجزرة صبرا وشاتيلا على أيدي عناصر ميليشيا حزب الكتائب اللبناني "(...) فيما كانت الأضواء الكاشفة الإسرائيلية تُنير أزقّة المخيمين الضيّقة والمظلمة".
يقول أنزيسكا إن الاجتياح كان "وصمة أخلاقية وكارثة استراتيجية على السواء، ما أسفر عن تقويض النفوذ الأميركي في المنطقة، والتسريع في حدوث مزيد من التدخل العسكري في الحرب الأهلية اللبنانية". كتب هذا الأسبوع [الأسبوع الماضي] في "نيويورك ريفيو أوف بوكس" أن وثيقةً وقَعَ عليها "تُقدّم برهاناً على تواصل المذبحة بحق المدنيين في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين جنوب بيروت" بقرار من الديبلوماسي الأميركي موريس درايبر الذي أيّد "زعمَ شارون المخادع بأنه لا يزال هناك إرهابيون في المخيمات".
يستشهد أنزيسكا بكلام المفكّر الإسرائيلي أموس أوز: "بعد ما حدث في لبنان، لم يعد بإمكاننا أن نتجاهل المسخ، حتى عندما يكون في سبات، أو شبه نائم، أو عندما يُطلّ برأسه من خلف الأقلية المجنونة والمتطرفة... إنه يتربّص، متقاعساً، في كل مكان تقريباً... حتى في الألحان التي تُعزَف داخل أرواحنا".
قدّم أنزيسكا مساهمة كبرى لتاريخ هذا النزاع. ففيما تُكرّر إدارة ترامب الأخطاء التي وقع فيها عددٌ كبير من أسلافها، مع إقدامها على خطوات تهدف إلى نزع الشرعية عن منظمة التحرير الفلسطينية وقطع التمويل عنها، يذكّرنا أنزيسكا بأنه لطالما كانت لأميركا حصّتها من المسؤولية في المنافسة غير المتوازنة بين إسرائيل والفلسطينيين.
يكتب في هذا السياق: "كان التنافس يُحسَم عموماً لمصلحة الفريق القادر في شكل أفضل على تحمُّل تبعات نصره الباهظ الثمن في أي لحظة".
وهذا الفريق كان إسرائيل على الدوام تقريباً. والولايات المتحدة متواطئة في عدد كبير جداً من تلك "الانتصارات" العقيمة.
كاتب وصحافي أميركي (الغارديان) |
|