التاريخ: أيلول ٣٠, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
دلالات إدلب ومستقبل سورية - محمد بدر الدين زايد
على رغم أن القمة الروسية – التركية خفَّضت بدرجة كبيرة التوتر الحاد الذي شهدته الأزمة السورية حول إدلب، فإن الشواهد تشير إلى أن تخفيف التوتر ليس إلا تأجيلاً لمعركة معقدة وخطيرة، كما يظل أن عملية التأجيل وترتيبات الصفقة الروسية – التركية تؤكد استمرار كثير من سمات الأزمة – والتي سبق أن أشرنا إليها هنا - وأولاها مقدرتها على إعادة إنتاج التوتر والتدهور كلما لاحت مظاهر للانفراج. الصفقة الروسية – التركية أعطت أنقرة فرصة لتهدئة توتر علاقاتها مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية، وستنجح ببراغماتية سياستها وانتهازيتها في أن تكسب مساحة حركة جديدة لدى كل من واشنطن وموسكو معاً، وإن كان تباعدها مع واشنطن في شكل تراكمي يجعل من إمكان عودة العلاقات بين الجانبين إلى سابق حميميتها أمراً بالغ الصعوبة.

فقد أصبح واضحاً أيضاً لدى واشنطن أن هناك الكثير في جوانب علاقات أنقرة وموسكو سيزداد البناء عليه في المستقبل، على أنه في الأقل الآن يكفي ترطيب مناخ العلاقات التركية - الغربية، وإرجاء سيناريو مخيف من تحرك بعض النازحين السوريين والأخطر بعض العناصر الإرهابية باتجاه الأراضي الأوروبية، ما يجعل الكثير من دول هذه القارة يتوسل وقف تصعيد واشنطن ضد أنقرة. على أن موسكو رابحة بالطبع أيضاً من هذه الصفقة، فقد أكدت أنها الطرف الرئيسي في الساحة السورية، وتستطيع عقد الصفقات من دون شريكيها، إيران والنظام السوري، وبعدها تعلن إيران دعمها لهذا الاتفاق، فهو يتيح لها ولروسيا هدنة من توتر متزايد في علاقاتهما بالغرب في الأقل في المرحلة الراهنة. كما أنه يتيح لروسيا تأمين قواعدها في سورية، ويضع تركيا في تكليف بالغ الصعوبة لجهة الفصل بين المعارضة المعتدلة وتلك المتطرفة، بل وتنزع سلاح الأخيرة، حيث سيكون عليها تفكيك «جبهة النصرة»، حليفتها وربيبتها الحقيقية التي يمكن اعتبارها أكبر إساءة قدمت للمعارضة السورية وحق الشعب السوري في إصلاح سياسي حقيقي.

وقد ينتهي الأمر بتمكين روسيا والنظام السوري من تصفية كل من المعارضة المسلحة المعتدلة، وتلك المتطرفة. مهمة بالغة الصعوبة أصبحت على عاتق تركيا وأجهزة استخباراتها ومؤسساتها المرهقة منذ الانقلاب الفاشل واستمرار حملات التطهير التي يقوم بها أردوغان لإطاحة كثير من عناصر الجيش وهذه المؤسسات.

الواضح من أزمة إدلب أن المجتمع الدولي وكذا الأطراف الفاعلة في سورية يقف عاجزاً عن التوصل إلى كيفية معالجة كثير من التفاصيل الضرورية لإنهاء الأزمة السورية، ومن أهم هذه الأبعاد مصير العناصر الإرهابية السورية وغير السورية التي انتقلت إلى هناك خلال سنوات الصراع، لتكرار ما حدث في أفغانستان ضد الغزو الروسي، والذي ترتبت عليه الكارثة التي سميت «الأفغان العرب»، الذين عانى منهم كثير من المجتمعات العربية وغير العربية وإن كان بدرجة أقل، ليثبت العالم مجدداً أن البشر لا يتعلمون من تجاربهم ولا تجارب الآخرين، بل يدمنون ارتكاب الأخطاء التي تسيء إلى القضايا العادلة كقضية الشعب السوري، وليتسببوا في كثير من الفوضى في سورية، ليصبح السؤال الذي لا أظن أن عند أحد إجابة سهلة عنه: ما الذي يمكن عمله تجاه هؤلاء البشر الموجودين بأسرهم وأطفالهم سواء سوريين أو غير سوريين وقد تدربوا على حمل السلاح والأدهى تغلغلهم في بيئة سكانية مزدحمة، بعضها أصبح حاضناً لهذه الجماعات المتشددة؟ ظروف تبدو فيها تجربة جبال أفغانستان أسهل كثيراً، وإن كان هناك فارق مهم في أن الاستراتيجية الروسية التي طُبقت في سورية أكثر مكراً من خلال مناطق التهدئة ونقلهم من منطقة إلى أخرى بما يتيح رصدهم وتكوين صورة أكثر دقة عنهم من بداية هذه الخطة وحتى انتقال أعداد كبيرة منهم إلى إدلب، ولتوظف تركيا التي لعبت دوراً رئيسياً في انحراف الثورة السورية بمهمة تحضيرهم لعمل عسكري ضدهم أو نقلهم خارج سورية، ما يجعلني أستخلص هنا أن المستفيد الأكبر من هذه الصفقة الروسية - التركية هو روسيا، وكذا النظام السوري حتى لو بدا الآن مهمشاً في ما يتعلق بمناقشة ترتيبات مصيره.

وتظل أهم دلالات صفقة إدلب، أنه ما زال أمامنا بعض الوقت حتى اكتمال جاهزية تسوية في سورية أو لإنهاء الأزمة، وأنه رغم استمرار تمتع روسيا بالسيطرة على أكبر نسبة من أوراق الأزمة، إلا أن هناك الكثير منها خارج سيطرتها، وأن شريكها التركي في عملية آستانة ما زال مطلوباً، كما أنها لا تستطيع استبعاد إيران وهي تؤكد في حركتها أنها أكثر حرصاً على حلفائها وليست مثل الولايات المتحدة في هذا الصدد، فضلاً عن هذين الشريكين فإن واشنطن أيضاً رغم ضعف دورها، ما زالت قادرة على الإزعاج، ولن تستطيع روسيا استبعادها تماماً، أو إجبارها على الانسحاب من سورية، إلا بعد السيطرة التامة على الأراضي السورية، لتصبح هذه المنطقة الموجودة فيها مع قوات كردية مصدر تعقيد متزايد، ليس فقط مع أي نظام سوري وإنما أيضاً بالنسبة إلى كل من تركيا وإيران. المهم أن سورية رغماً عن إرادة شعبها تستمر كأهم ساحة صراع دولي، فواشنطن تدرك أن روسيا ستخرج من سورية كلاعب دولي رئيسي، وجانب كبير من نخبتها الحاكمة، في الأقل ترامب ومن معه، يفضل التركيز على ما يعتبره عدواً أكبر، أي الصين. ولكن لأن هناك مؤسسات أميركية ما زالت ترفض التهوين من خطورة روسيا، فلا بأس من مزيد من المماطلة وزيادة كلفة موسكو في الساحة السورية، فهي في النهاية تظل خصماً لا تريد واشنطن أن يستمتع بنصر سريع أو سهل.

من ناحية أخرى، ومثل أي صراع دولي ممتد ومتداخل الأطراف يواصل إنتاج فصول جديدة، فقد أضافت إسرائيل بصمة أخرى إلى بصماتها الكثيرة في مجريات الصراع بإسقاط الطائرة الروسية لتبرر لروسيا الإعلان عن تزويد سورية بمنظومة الدفاع «إس 300» التي ستكون لها تبعاتها في معادلات المواجهات المقبلة في المنطقة.

إذاً فقد أضافت صفقة إدلب إلى تعقيدات الأزمة وأكدت سماتها، ولكنها تظل صفقة موقتة تؤجل أحد أخطر فصول هذه الأزمة، وعلى العالم ترقب حل متكامل لكيفية التعامل مع هذه المنطقة العازلة التي ستحوي ربما آلاف العناصر المتشددة وأسرهم في حال النجاح في فصل العناصر المعتدلة عنهم. وربما نتحدث غداً عن أكبر معسكر اعتقال في تاريخ البشرية محاط بوجود عسكري روسي وتركي وربما سوري أيضاً. وربما يتفتق ذهن أحد عن إشراف دولي لإدخال المساعدات الإنسانية والأغذية، ولكن أليس هذا أقل السيناريوات خطورة مقارنة باحتمال تسريب أو نقل تركيا لبعضهم إلى مواقع أخرى كليبيا مثلاً؟ وفي الأحوال كافة، حتى ذلك الحين، يظل مستقبل الشعب السوري معلقاً في انتظار تسوية وترتيبات لا تأتي.

* كاتب مصري