التاريخ: أيلول ٢٦, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
من علامات تراجع «الإمبراطورية الأميركية» - عزمي عاشور
التاريخ بأحداثه مسرح كبير لمن يريد أن يرى كيف كانت تتفاعل مجتمعات البشر عبر آلاف السنين، وكيف أن القوة كان لها قانونها الحاسم في هيمنة مجتمع على آخر. ولم يمنع ذلك ظهور الشغف إلى التراكم المعرفي والحضاري مع الاحتفاظ بكل ما هو مفيد من عرف وأخلاق حتى يتحقق السلام والازدهار للمجتمعات. فالتاريخ هنا لا يخلو من حماقات يقودها أحياناً أفراد وتقودها في بعض الأحيان ثقافة مجتمعات، فالكرة الأرضية على مدار الخمسة آلاف سنة الماضية لم تُعدم الحضارة وعصور الإمبراطوريات الكبرى بتقاليدها وثقافتها، بداية من الحضارة الفرعونية في حوض النيل ومروراً بالحضارات الأشورية والبابلية في أرض نهرَي دجلة والفرات وبحضارات آسيا في الصين والهند وغيرها من المجتمعات التي حملت ثقافة وتقاليد ما زالت متجسدة في صلب مجتمعاتها حتى اليوم. ثم جاءت النقلة الحضارية الثانية مع حضارة حوض البحر المتوسط التي انتقلت مباشرة من الجنوب في مصر الفرعونية لتصل إلى اليونان والرومان، لتستمر ما يقرب من ثمانية قرون وتسلم نفسها إلى الطور الثالث من الحضارة الذي تسيّدته الحضارة العربية الإسلامية التي استمرت بدورها العدد نفسه من القرون، سواء في الأندلس أو في شبه القارة الهندية.

ثم كان الفوج الرابع للحضارة الحديثة الذي جاء على يد الإسبان والبرتغال ومن ثم الإنكليز والفرنسيين والنهضة الأوروبية عموماً. وعقب الحرب العالمية الثانية بدأت تتشكل خريطة القوة الدولية بعدما تسيّدت التكنولوجيا المجتمعات، الفقيرة والغنية، إلا أنه بقيت القوة لمن امتلك أسرارها ورأسمالها الاقتصادي، فتوارت الشمس عن فرنسا وبريطانيا لتبزغ فوقهما الإمبراطورية الأميركية التي لم تجهدها الحربان الكبيرتان مثلما أجهدت الدول الأوروبية، فكان لوجودها التميز الذي زيّنه أنها باتت مركزاً للحضارة الحديثة، سواء على مستوى الاختراعات والتطبيقات وغيرها، ما أعطاها مزايا اقتصادية وعسكرية لتفرض نفسها كقوة رأسمالية في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتفاعلات النظام الدولي لم تمر بسهولة لوجود الاتحاد السوفياتي في أقصى شرق الكرة الأرضية بمكونات عسكرية ضخمة وأيديولوجية اقتصادية اشتراكية مناقضة للرأسمالية، الأمر الذي جعل الصراع بينهما يأخذ أوجهاً مختلفة سواء على المستوى العسكري وحروب الفضاء أو على مستوى العقيدة الاقتصادية أو على مستوى مناطق النفوذ، وهذا هو الأهم حيث انقسم العالم إلى معسكرين، أحدهما مؤيد للاشتراكية السوفياتية والآخر مؤيد للرأسمالية الأميركية. وحتى مع اختفاء هذا الصراع بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك دوله في العام 1989 استمر التسابق بين القوتين.

والمؤشرات هنا كثيرة، أبرزها أنه للمرة الأولى تُجبر الولايات المتحدة على أن تشرب من الكأس نفسها التي اتخذت منها منهاجاً في سياساتها الخارجية بالتدخل في شؤون الأنظمة الحاكمة ولو كانت ديموقراطية، مثل الذي حدث في خمسينات القرن الماضي مع إيران وفي سبعيناته مع تشيلي. وأخذ موضوع التدخل هذا في شؤون المجتمعات شكلاً مؤسسياً مدعوماً من الأجهزة الأمنية والتشريعية سواء بإنشاء المنظمات التي تعمل تحت شعار نشر الديموقراطية، وهي في حقيقة الأمر تعمل تحت بند المصالح والتدخل الأميركي لتستخدمها الإدارات الأميركية في الوقت المناسب. ومن هنا كانت بمثابة صفعة قوية لهذه السياسة أن تقوم الأجهزة الأمنية والقضائية في الولايات المتحدة بالتحقيق باتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة بالنهج نفسه الذي سلكه الأميركيون على مدار العقود السبع الماضية. وهذا الموقف يظهر علامات ضعف للإمبراطورية الأميركية أكثر ما يظهر علامات قوة، فالتدخل حدث في عهد الإدارة السابقة والرئيس الحالي، وإن كان المعني بالتدخل ليس هو المتهم، وإنما المتهم مكانة الدولة العظمى، وهذه تعد سقطة لدولة تحتل المرتبة الأولى في النفوذ العسكري والاقتصادي في العالم. والولايات المتحدة هنا، وإن كانت لم تشارك في شكل مباشر في الحربين العالميتين، إلا أن ضحاياها بسبب هذه السياسة على مدار العقود التالية كانوا بالملايين سواء في فيتنام أو أميركا اللاتينية أو أفغانستان والعراق. أليست هذه إحدى علامات بداية انهيار الإمبراطورية الأميركية، خصوصاً في ظل بزوغ قوة كالصين وحتى روسيا التى لم يمنعها نهجها الاقتصادي في عهد الاتحاد السوفياتي السابق من أن تعبر عن ثقافاتها وحضارتها، وها هي تعود من جديد.

• كاتب مصري